حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، لامس بنبض قلبه الحكيم وجدان شعبه المخلص، وغاص في أعماق تطلعاتهم وآمالهم، فكان صوته صدى لأحلامهم وطموحاتهم.

في خطابه المفعم بالحكمة والقيادة الرشيدة، والذي ألقاه صباح أمس الأول بمناسبة افتتاح دور الانعقاد العادي الرابع من الفصل التشريعي الأول الموافق لدور الانعقاد السنوي الثالث والخمسين لمجلس الشورى، خاطب سموه أبناء شعبه كقائد ملهم، راسخ في ولائه لشعب يعتز بانتمائه وولائه لوطنه وقيادته. لقد كان الخطاب بمثابة عهد متجدد بين الشعب وقيادته، مجسداً العلاقة الوثيقة بين نظام الحكم وأبناء الوطن، تلك العلاقة التي تزدهر مع كل خطوة نحو تحقيق رؤية قطر الطموحة، وتعزيز مكانتها بين الأمم.

وكما عودنا سموه في خطاباته للشعب من خلال مجلس الشورى يستهلها بالحديث عن الشأن المحلي، بادئا بالوضع الاقتصادي الذي هو عصب الحياة، وأهم مقومات نهضتنا، والذي يأتي في صدارة أولوياتنا، ثم استفاض سموه في الحديث عن المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وأهمية المشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ضمن المشاركة الشعبية في اتخاذ أهم القرارات، وانتقل سموه إلى البعد الإقليمي بالحديث عن حرص قطر على انتمائها الخليجي، وتعزيز منظومة مجلس التعاون الخليجي وتحقيق تطلعات شعوبه، ومن ثم قضية فلسطين كونها أعدل قضية في التاريخ الإنساني، قضية العرب الأولى، والشغل الشاغل لدولة قطر وشقيقاتها الدول العربية.

حديث سموه حفظه الله عن الاقتصاد في خطاب الأمس مفعم بالأمل والخير، ويعيد إلى الأذهان عبارته الخالدة «أبشروا بالعز والخير» والتي انتشرت حول العالم وقتها بسرعة الصوت عبر منصات التواصل الاجتماعي وكل أشكال وسائل الإعلام، وها هو حديث سموه أمس يشكِّل من جديد رسالة طمأنينة وثقة في النفس، بمواصلة الاقتصاد القطري مسيرة النمو والتطور، فرغم الإنفاق الكبير على مشاريع البنية التحتية ومشاريع كأس العالم 2022 واصل الاقتصاد نموه على عكس المتوقع والمعتاد، إذ جرت العادة في كل الدول التي نظمت كأس العالم من قبل عدم تحقيق نمو اقتصادي بأية نسب تذكر في السنوات التالية، أما قطر فقد كسرت هذه القاعدة وحققت نموا عام 2023 بنسبة 1،2 % وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى تحقيق نمو بنسبة 2 % هذا العام 2024، وترتفع النسبة إلى4،1 % خلال الفترة من 2025 إلى 2029، وفي الوقت الذي لا تزال دول كثيرة حول العالم تعاني من ارتفاع نسب التضخم فقد انخفضت لدينا لتصل إلى 1،4 % وهي نسبة لا تكاد تذكر، ولا يزال أمام دول كثيرة حول العالم سنوات طويلة كي تصل إليها، أيضا تم توجيه الفائض إلى خدمة الدين العام الذي وصل عام 2021 إلى 73 % من إجمالي الناتج المحلي لينخفض إلى أدنى من44 % عام 2023.

إنها أرقام تذكي الحماس وتمثل حافزا لكل أبناء قطر على العطاء والتميز، وتؤكد نجاح السياسات المالية، وترسيخ المكانة المتقدمة على خريطة الاقتصاد العالمي بفضل التوجيهات الرشيدة لصاحب السمو حفظه الله ورعاه، ومواصلة مسيرة تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030 وإرساء اقتصاد متنوع تنافسي، قوامه المعرفة والابتكار والتحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات وتطوير النظم الإدارية، وتنويع مصادر الدخل، وتعظيم دور القطاع الخاص، وتعزيز الموارد والثروات الطبيعية.

ولا شك أن وراء هذه الانجازات المشهودة تقف الخطط الاقتصادية المدروسة التي عملت على دعم كافة قطاعات الدولة بما فيها المؤسسات الخاصة لتصبح شريكاً فاعلاً في تقوية الاقتصاد الوطني، وتعزيز ثقة المستثمرين بتهيئة بيئة وفرص استثمارية واعدة، وبنية تحتية متطورة، وإطار تشريعي ملائم وعادل يضمن الربحية وكافة الحقوق لكافة الأطراف.

وفيما يتعلق بالشأن الداخلي أيضا فإن سياسة الدولة تتسم بالحيوية والمرونة، وعدم التردد في التغيير إذا اقتضت الضرورة ذلك، والرغبة في خوض التجارب قبل الحكم عليها، ليتسنى بعد ذلك تقييمها تقييما سليما، والوقوف على ما يحتاج من مراجعات وتطوير، سواء كانت قرارات أو قوانين ومواد دستورية تم اتخاذها أو إقرارها في مراحل معينة سابقة، حتى إذا اقتضى الأمر إجراء تعديل ما يكون تعديلا أو تغييرا مدروسا، وبناء عليه أشار سموه إلى انتهاء مجلس الوزراء الموقر من إعداد مشروع تعديلات دستورية بموجبها يتم العودة إلى نظام التعيين لأعضاء مجلس الشورى، وجه سموه بإحالتها إلى مجلس الشورى الموقر لاتخاذ اللازم بشأنها وفقا لأحكام الدستور.

وغاية هذا كله حرص سموه على تحقيق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، والتمكين للعدالة والشفافية ومواكبة طموح المواطن، وتأكيد أن الجميع سواسية أمام القانون، ومشاركة الشعب في اتخاذ أهم القرارات، وهذا الجانب حظي بنصيب وافر من خطاب سمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه كما رأينا واستمعنا بالأمس.

تشديد سموه على مشاركة القطريين والقطريات في الاستفتاء على التعديلات الدستورية يعكس مدى ما يوليه سموه من أهمية بالغة لرأي المواطن، ومصلحة الشعب التي تكمن في تكاتفه وتلاحمه ووحدته، والاعتزاز بهذه القيم التي تمسك بها أسلافنا، وبها ومن خلالها تغلبوا على الصعاب وواجهوا التحديات، وكانت قطر في هذه المكانة المرموقة.

وفي الشأن الإقليمي حرص سمو الأمير على تأكيد اعتزاز قطر بانتمائها لمحيطها الخليجي ومن خلال رئاسة الدورة الحالية لمجلس التعاون دفعت في اتجاه مسيرة التكامل، وتعزيز العمل المشترك لتحقيق طموحات شعوب الدول الأعضاء بالمجلس.

وكما توقع الجميع حظيت قضية فلسطين باهتمام كبير ومساحة أوسع في الخطاب السامي، فلا يخفى على أحد مكانة القضية الفلسطينية في اهتمام دولة قطر وسياستها الخارجية، وبمناسبة مرور عام على العدوان الإسرائيلي الوحشي على أشقائنا الفلسطينيين في غزة ندد سموه حفظه الله بجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الأطفال والنساء وكبار السن من أبناء غزة، كما ندد بتقاعس المجتمع الدولي عن وقف هذه الحرب الجائرة، مما شجع الصهاينة على تنفيذ مخططات معدة سلفا للتوسع في بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وتوسيع وتصعيد العدوان ليشمل لبنان ويودي بحياة الآلاف من أبناء الشعب اللبناني الشقيق، وكان الحل الأمثل لوقف التصعيد على لبنان هو وقف الإبادة الجماعية على غزة الذي تطالب به كل البشرية.

واتصفت عبارات الخطاب بالصرامة في وجه العدوان الإسرائيلي بالقول إن هذا الدمار الذي أحدثته آلة القتل الإسرائيلية لن يجدي نفعا مع الشعب الفلسطيني الصامد المتمسك بحقوقه المشروعة، ولن يتحقق أمن إسرائيل يعد كل هذا القتل إلا بالانصياع لحل الدولتين وفقا لقرارات الشرعية الدولية والقبول بدولة فلسطين كاملة السيادة على أرضها.

وها هو سموه حفظه الله ورعاه يعيد على أسماع المجتمع الدولي ومنظماته ومؤسساته ما أكد عليه في خطابه أمام الدورة 79 للجمعية العام للأمم المتحدة مؤخرا من أن ليس أمام إسرائيل إلا الانصياع لما توافق عليه المجتمع الدولي، ولن تفوز بالاحتلال والسلام معا.

الخطاب في مجمله حافز للحكومة والمؤسسات والأفراد للتفاعل الإيجابي مع ما اشتمل عليه من خريطة طريق وخطة متكاملة لمزيد من النهوض، ومواكبة عصر الذكاء الاصطناعي، واكتساب أبناء قطر المهارات التكنولوجية الحديثة والتشجيع على الإبداع والابتكار، وتطوير الموارد البشرية والتمسك بالقيم الفاضلة في سبيل السير نحو مستقبل أكثر ازدهارا وإشراقا كما يطمح سموه حفظه الله وينتظره من أبناء شعبه.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات