+ A
A -
سعاد فهد المعجل كاتبة كويتية

أعشق الخريف بألوانه وأطيافه ورياحه ونزقه وأساطيره، للخريف مكانة في قلبي، تجعلني لا أستطيع إلا أن أحتضنه في مقالة عند كل قدوم له، فأصبحت أكتب في كل خريف عن الأساطير، التي صاغتها حضارات مختلفة حول هذا الفصل المختلف في ألوانه ومزاجه ونزقه، وعن علاقته بالعمر البشري، وكل ما ورد من وصف في الشعر والأدب والغناء لهذه العلاقة، وعن احتضان الفن والرسم لألوانه المفرطة في جمالها ونسقها وإبداعها.

هذا الخريف يأتي مختلفاً، فقد أصبح فيه للسياسة دور ولغة تنافس، في حوارها مع الخريف، الشعر والأدب والفن، خريف حلّت فيه الذكرى الأولى لرياح «طوفان الأقصى»، التي أنهضَت أمة كاملة من سباتها، وأحيت فيها بعضاً من كرامة مفقودة طال انتظار هبوبها، خريف أسقَطَت رياحه العاتية كل المنظومات السياسية والإنسانية الزائفة، من حقوق إنسان، إلى أمم متحدة، ومواثيق دولية، وقانون دولي وغيره. خريف غاضب جاء ليثأر ويقتص لموت آلاف الأطفال الأبرياء، ويرمّم الدماء والأشلاء والكرامة المهدورة في طريقه.

حين صدَرَ كتاب خريف الغضب للصحافي الراحل محمد حسنين هيكل في عام 1982، الذي يشرح فيه الأسباب التي أدّت إلى اغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، قال الكاتب حينها في مقدمته إن الكتاب سيُثير جدلاً، لأن الموضوع على علاقة بقوى عربية ودولية لها أهدافها المستمرة فوق مصائر الأفراد، مضيفاً أن خريف الغضب ​يتعرّض لحالة رئيس غاضب، بلغ به الغضب إلى حد اعتقال رموز كل الاتجاهات السياسية والفكرية في مصر، وحالة مجتمع غاضب وصلت به الظروف الاقتصادية والاجتماعية والفساد إلى حد، جعله يدير ظهره لكل شيء.

ما ذكره الراحل هيكل في خريفه الغاضب ينطبق اليوم على غضب خريف طوفان الأقصى، فالحصار الإسرائيلي الخانق والظالم لغزة جعل الغضب يتراكم ليتفجّر يوم الطوفان الخريفي رياحاً عاتية وبراكين غضب ومقاومة، والفساد الأخلاقي السياسي والتآمري، الذي ساد المجتمع الدولي من أقصاه إلى أقصاه، ضاعف من فورة الغضب، وسرّع من وتيرة رياحه التي تفجّرت في وجه كل المعاهدات الزائفة، وكل لجان الغوث والإغاثة وحقوق الإنسان وحماية المدنيين في الحروب، والتي كشفتها ريح الخريف العاتية.

مضى أكثر من خريف، منذ أعلن الراحل هيكل عن غضبه الخريفي، وخريف ثانٍ بدأ منذ خريف الغضب، الذي هبّت رياحه من غزة، واجتاحت كل نفس عربية يشتعل في داخلها غضب صامت أيقظه خريف طوفان الأقصى، وربما سيأتي أكثر من خريف والغضب الساطع باقٍ، فموازين القوى الدولية لا تزال في كفة المعتدي، ولا يزال الغرب يُحيي ذكرى طوفان الأقصى بالدموع وبالشموع، وبكونه يُشكّل انتهاكاً لأمن واستقرار إسرائيل وشعبها، وكما لو أن حق الأمن والاستقرار قد أصبح حقاً غربياً بحتاً، لا يتمتع به إلا من يحمل جينات وراثية مُحدّدة.

خريف الأقصى سيُزهر ربيعاً أخضر، ويُثمر شقائق نعمان قانية بِفِعل المقاومة الباسلة، وبِفِعل دورة الفصول والأحوال والأقدار، فالظلم والقمع والإذلال حالات فصلية ومرحلية، لابد أن تدور بها دوائر القضاء والقدر والزمن.

copy short url   نسخ
21/10/2024
5