خرجت من لجنة امتحان السلك الدبلوماسي وأنا بحالة ترقب، وكان اللغط قد اشتد بين المعارف حيث وصلني همس مفاده: يا لابنة الجنرال المسكينة، إنا لنراها ترنو لتحقيق حلم والدها وإنه من الضاغطين.
كم وددت تبرئة والدي من هذا اللغط، إذ لم يمارس عليّ أية ضغوط. فقط، كان يعسعس لي عن الفرص.
أعلنت النتيجة وخلت النشرة من اسمي، ما كان بمثابة إعلان هزيمة.
واليوم أرى أن إخفاقي في الالتحاق بالعمل الدبلوماسي -وإن ساءني- بمقتبل عمري، إلا أن اللجنة الممتحنة لم تغمطني حقي، فلست مؤهلة للعمل السياسي، وكم أنقذني ربي بهكذا إخفاق وعدّل مساري لوجهة أخرى تناسبني.
لكني لا أنكر شعوري بغصة -يومئذ- على حصيلة عنائي لليالٍ عاقرت فيها السهر وسُجنت فيها مع الكتب والقلم، ثم تنصرم الأماني حزنًا على الحبر المسكوب.
كنت حتى المرحلة الثانوية أنادي والدي بـ «Papi» وقد لاحظت أن الوالد يمتعض من الألقاب ويمقت أن يناديه أحد بـ: يا بك، باشا، معاليك، سعادتك، أو حتى يا «كابتن» رغم كونه كابتن طيار حربي.
لكن، بمجرد ترقيته، غدوت أناديه «جنرال»، وقد لمست قبولا منه كلما ناديته بهذا اللقب.
يبدو أن العيش في كنف أب، زوج أو مدير «مسيطر»، يقودك لحتمية التفكير بمستوى يتجاوز المنطق.
ولأن الإيجاز مطلوب مع الجنرالات، لذا، فإن السخط الأخرس كان ديدني، والصمت المدوي كان ردائي، لضيق والدي برحابة عباءة الإنصات.
لكن عقب النتيجة، دخلت عليه بلا ارتباك، وقلت بصوت يتصارع فيه الارتعاش مع الثبات: جنرال، سأسافر لتركيا، للتغيير.
:حسنًأ، أعطني وقتا لتنظيم سفرة
:لا، أرجوك، أنا بحاجة للسفر وحدي
:كيف؟ لابد أن أصاحبك
:أفضل الاختلاء بنفسي
رمقني بعين كفوهة بركان تطلق شرارة رعب ثم قال: إذن، أنت تقولين لي تنَحّ أيتها الجيفة من طريقي؟
:لم أتفوه بهكذا قول
:بل صرخت به لهجتك الصماء معي، أتحسبينني صبيا يستعصي عليه فهم سوء صمتك.
لوهلة، شعرت ببطء في تدفق كلامي حتى بدوت كصبي متلعثم، ولا أعلم كم من الوقت مكثت دون النطق أو حتى الغمغمة، فكيف لي أن أشرح أن صدري قد طفح منه اليأس.
قلت: أعلم أن من حقك مصاحبتي، لكن أتتخيل أنك من نوعية الآباء الذين يمكن الارتياح لصحبتهم وأنا في حالة نفسية سيئة؟
لا أدري كيف طوعت لي نفسي التواقح بهكذا رد صلف مع والدي، ولليوم كلما تذكرت قسوة صمتي أو بشاعة ردي الإقصائي في هذا الموقف وبموقف آخر، وددت لو صفعني.
:أنت فاهمة غلط، لقد أردت صحبتك، لا لكونه حقي، بل لأنه واجبي. ثقي أننى لست معنيًا بحقوقي مع أبنائي، فهاجسي، هو واجباتي تجاههم.
لكن للأسف، أتفق معك كوني لست أبًا مريحًا، لذا، سأسمح لك بالسفر شريطة أن تصحبك أمك.
:جنرال، أرجوك، أنت تعلم أنها مولعة بالتبضع وأنا بحاجة لاكتشاف نفسي، لا اكتشاف بازارات.
:احمدي ربنا أني لم أفرض عليك أخاك
ثم فتح خزانته ووضع بين يدي جهاز «السيلف ديفندر» الخاص به وعلمني طريقه استخدامه.. قال ما معناه: «لا قاربتك الشرور»، ثم مضى مغاضبًا. كنت أستدني موعد الرحلة الذي لم يفقد هيبته لما أهابا .. ولقد أيقظت في استعدادات السفر خواطر مبهمة بين الحذر، الحماس، والغبطة المغلفة برجاء أن يوقظ لي المجهول فرصة من رقاد الأحلام، لأصحو على قبلة من الفجر على جبين آمالي فرصة بأن ربما يُشعل الغد، ما أطفأه الخسران .. بالفعل تأهبت للبحث عن الفرص، فرصة المعرفة، فرصة مصادفة المجهول، المواساه بالجديد، السلوى بالغريب، التلذذ بالمذاقات الصادمة، والإقبال على العطور التي ترج البدن كالنشوق روائح الأماكن والتي لا يجدي معها آلزهايمر ولا ينفع معها النسيان. وكنت عازمة على زيارة اسطنبول، ازمير وبورصة، ولم أنتبه للغة جسد والدتي غير الآبهة لزيارة تلكم المدن، فكانت ابتسامتها -بنصف خد- تُعلن زهدًا في ذكر أي مدينة بخلاف اسطنبول، في حين كانت تومض فرحًا كلما سمعت عن أسعار أسواق بازاراتها الزهيدة الواعدة بشراء هدايا للأهل، سيما وأن أخي كان قد خطب حديثًا، ما يعني أن لديها أولوية لمهاداة العروس والأصهار.
{ يتبع
داليا الحديدي

كاتبة مصرية