يُطِلُّ علينا رمضان هذا العام في ثوبٍ جديد لم نعتدهُ سابقًا، فرمضان شهرٌ روحِيٌ، كان دائًما مزدحمًا بالمناشِط الدينيَّة والاجتماعيَّة، الطقوس والتقاليد، حلقات الذكر وصلوات التراويح والقيام في المساجِد، لقد كان رمضان فُرصة مثاليَّة للتواصُل الاجتماعِي ولقضاء الأماسِي والطاعات الرمضانية في صُحبة الأسرة الممتدة والأهل والمعارِف والأصدقاء، لكن هذا العام وبسبب ما فرضتهُ جائحة فيروس كورونا المستجدّ (كوفيد - 19) من إجراءات احترازيَّة صارمة؛ أصبح كُل هذا الصخَب السابق غير مُمكنًا، وهي فرصةٌ لنا جميعًا أن نركِّز في عباداتنا عن قُرب، دون أن يُلهينا أيُّ منشَطٍ آخرٍ جانبِي يُمكننا أن نقوم بتأديتِهِ لاحقًا بإذن الله تعالى.
هي فرصةٌ ذهبية للعودة إلى هذه الروح التي خلقها اللهُ تعالى مفردة وستعودُ إليه مفردة كذلك، يقولُ الله تعالى في سورة الأنعام: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ»، هي فرصةٌ لتزكية كُل ما علِق بهذه الروح من شوائِب عالقة وترقيتها والتقدُّم إلى الكتاب والسُنَّة والتفكُّر والتدبُّر ما استطعنا سبيلًا. برأيي الأمر سهل، إذا ما صمَّمنا برنامجًا رمضانيًا يوميًا نقومُ فيه بتوزيع العبادات المختلفة طوال اليوم الرمضاني بشكلٍ قابِلٍ للتنفيذ والمُداومة، فنُخصِّصُ، على سبيلِ المثال، وقتًا لقراءة القرآن الكريم والاطلاع على ما تيسَّر من التفاسير المختصرة للآيات والسُور، ففيه بيانٌ وشرحٌ للمقاصِد الشرعية وهو أمرٌ يُساعِد كثيرًا على فهم الآيات وتدبُّرها، أذكار الصباح والمساء، إقامة صلوات التراويح والقيام، وصل الأرحام افتراضيًا، إعانة الأهل على العبادات وتذكيرهُم بها، التفكُّر حياتِنا وما تضمُّهُ من علاقات وأهداف وغيرها، ومحاولة تصويب النفس والهدف والغاية، إلى غيرها من الأمور التي تُمكِّنُنا شيئاً فشيئًا من إثراء الجانِب الروحي في حياتنا من جديد، هذا الجانِب الذي أهملناهُ كثيرًا وجاء الوقت للالتفات إليه في هذا الموسِم الروحي المبارك؛ لِما لهُ من انعكاسات كبيرة في البناء الروحي والعُمران والحضارة الإنسانيَّة المعاصرة.
قرأتُ تقريرًا صحفيًا نشرتهُ مؤخرًا وكالة الأنباء الفرنسيَّة بعنوان: «رمضان كئيب في الشرق الأوسط في ظل جائحة فيروس كورونا»، وقدَّم التقرير لعددٍ من المظاهر الاجتماعية التي كانت تُمارس في كُل رمضان قبل استفحال الوباء، مُعللًا أنَّ في غيابِها سيُعاني الشارِع الإسلامي من نوعٍ من الكآبة والأسى، ورُغم ما يحملُهُ التقرير من معلومات حقيقيَّة إلا أنَّهُ أغفَلَ عُنصُرًا هامًا كان في الغالب، غائبٌ عن الحُضور الرمضاني الدائم، وهو غياب الاهتمام بالجانِب الروحي رُغم أنَّ رمضان يحمِل في طياتِهِ رسالةً روحية بامتياز، إلا أن ضجيج وصخَب المناسبات الاجتماعية والطقوس والعادات والتقاليد المتوارثة كانت دائِما تشوِّش على الفرد التركيز على جانب البناء والتزكية الروحية، كان رمضان يدخُل علينا ويخرُج دون أن نشعر، لا بالوقت ولا بالتغيير الحقيقي الذي يجِب أن يُحدثُه، هُنا أتذكَّرُ مقولة للأديب والمفكر الروسي ليو تولستوي «حياة روحية تُعاش، لا تُلقَّن»، فمن مظاهر حياتنا المعاصرة أنَّها أهملت الجانِب الروحي، وجعلتنا بسبب وتيرة الأحداث والتشويش الذي تبعثُهُ منصَّات التواصل الاجتماعي وغيرها من مظاهر الحضارة الجديدة نبتعِد عن ذواتِنا، أرواحنا، وننسى أن في تغذيتها وتقليمها وتصويبها خيرًا كبيرًا لنا وللعالمين، وأن في ابتعادِنا عنها والتهائِنا بأيِّ شيءٍ آخر سِواها خسارة فادحة وبناء في أرضٍ لا نملكُها أساسًا.
رمضان الذي نعيشُهُ اليوم عن بُعد، بُعدٌ عن كُل شيء يُمكنُهُ أن يُشتتنا، يجب أن نعيشَهُ عن قُرب، قُربٌ من خالقتنا، ديننا، معاشِنا، عاقبة أمرنا، أرواحِنا، من يسكُنُ أرواحنا، من سبقنا إلى الدار الآخرة، قُربٌ مدثَّرٌ بالعمل والتأمُّل، قُربٌ فيه مراعاةٌ للآخرين، مِمَن يحتاجُون إلى قوتٍ يسُدُ بِهِ جوعهم، فيه تكافلٌ اجتماعيٌ بمنح المال للفقراء والمُعتازين، فالحجر ولَّد أشكالًا من العوز والحاجة التي يُمكن ألا تكون ظاهرة للعيان، قربٌ فيه ترشيدٌ في استهلاك الطعام، فالفائض اليوم لا يُمكن توزيعُهُ على الأقارب أو حتى المحتاجين في أيِّ مكان بسبب إجراءات الوقاية من انتشار الفيروس، قُربٌ فيه اتصالٌ بالأرحام باستخدام منصَّات الاتصال الافتراضيَّة المختلفة، قُربٌ فيه تضرُّعٌ ودُعاء أن يغيِّر الله العظيم الحكيم حالنا إلى أفضلِ حال، فهذه الظروف الاستثنائية التي تقطَعُ بالإنسانيَّة جميعًا وتُرخِي بظلالَها الرماديَّة على كُل نواحِي حياتنا تحتاجُ إلى هذا التضرُّع والتبصُّر في الحكمة والمُراد الإلهي لنا وللعالمين من هذا الوباء العالمي.
فيارب قُربًا ليسَ بعدَهُ بعد، وقبولًا ليس بعدهُ رفض، واتصالًا لا انقطاعَ بعده، ورحمةً تغمُرُنا جميعًا، وفُرصةً ثانية تُقرِّبُنا إلى تصويب هدف وجُودِنا الإنسانِي وهو معرفتُك وعبادتُك وفق منهجك وشريعتِك الغرَّاء.
‏رمضانكم مباركٌ بالطاعات والبركات والقبول، كل عام وأنتم بخير، ‏رزقنا الله والمسلمين جميعًا فرصًا متجددة للطاعات وتزكية الروح وتنقيتها من الشوائب والعوالق، ‏ورفع الله عنّا، برحمته، الوباء والبلاء، ‏إنَّهُ على ذلك لقدير.
{ إعلاميَّة وباحِثَة أكاديميَّة- جامعة قطر
بقلم: خولة مرتضوي