داليا الحديدي
حصلت على التأشيرة وحجزنا النُّزُل والتذاكر.
وصلنا اسطنبول التي لم يكن خيالي يرقى لهكذا رحابة، لهكذا سحر، لهكذا حسن، فكل بقعة في هذه المدينة بمثابة تاريخ ناطق.
ورغم تفضيلي للمدن الأوروبية الصغيرة، إلا أنني وقعت في حب تلك الآسيوية الرشيدة..
أحببتها من أول خطوة في ميدان تقسيم..
من أول بوريك بمقهى «مادو»..
من أول لحن «لزكي مورين»..
من أول رحلة للبوسفور..
من أول معزوفة على البزق..
من أول فسحة في جزيرة الأميرات..
من أول قضمة خطفها النورس من يدي..
من أول بقلاوة تذوقتها لدى «حافظ مصطفى»..
ومن أول ركعة بمسجد سلطان أحمد.
بالمطار، استقبلنا شاب تركي يعمل لدى وكالة السفر التي تعاقدنا معها، وأوصلنا للنزل..
بفندق «اوتومان»، رحب بنا موظف الاستقبال الودود وعرض استبقاء جوازات السفر في الأمانات.. بعدها، صعدنا لغرفتنا..
كان النُزُل يقع على تلة مرتفعة بالمدينة، ما دعا أمي للتذمر والغمغمة، فقد شرعت تحدث نفسها بما معناه..
«من الخطأ أن يجاري الشيبة، الصبيان»..
فبينما هي تعاني من خشونة الركبة، تتعثر
تخطو بحذر، تخشى كبوة لا تبقي ولا تذر
كنت أركض حجلة، على الدرج
فوق التلال البازلتية
لا أخشى الخطر
أرافق الليلك النابت
على جانبي الحجر
أراقص ظلي
وألثم ثغر أغصان الشجر
أعانق مطبات دروب السَمَر
وأخانق حُمر إشارات الضَجَر
أركل بقدمي حصاة الأرصفة
في الشوارع الدامسة
ساعة السحر
أتوسد الأسوار العتيقة
التي بها التاريخ يُختصر
أكشف رأسي من الحجب،
أدعو السماء، علّ الذنوب تُغتفر
أغفو فأفترش الطرقات
وألتحف ضي القمر
أخترق السكون بصوت قبلة
على وجنتي نقطة مطر
أتودد للقدر، فيرسل من فوقي وريقة شجر
مع الريح دارت حتى حارت
ثم خارت قواها فطاحت
وحطت على معصمي، فثَمِلتُ، واستبشرتُ من هذا الخدر.
كل هذا وأمي تخشى، أن ساعة القدر، يعمى البصر
لمَ الحذر، وكل صغير وكبير مُستَطر؟
كنت مُتحمسة لمشاهدة معالم اسطنبول، لكن والدتي كانت جائعة، فاقترحت تناول الغذاء بمطاعم شارع الاستقلال، لكنها أخبرتني أنها لمحت حانوتا صغيرا بجانب النُزُل، نستطيع شراء بعض الجبن والخُبز منه
تراني أسافر لقارة أخرى لتناول خبز وجبن؟
أسررتها في نفسي وصاحبت أمي للحانوت الواقع على قارعة الطريق، وكان راعي الدكان عجوز ويتحدث بعربية سليمة، أخبرنا من خلالها أنه عمل في مصر بمطلع شبابه، ثم سألنا عن سبب الزيارة وفي صحبة من جئنا؟ :لحالنا
:الله الله الله، من دون رجال؟ قالها بنبرة تركية استنكارية
شعرت والدتي بحرج
: وصمم العجوز على تعيين صبيين يعملان لديه -في عمر 14 عاما- ليصاحبانا أينما توجهنا
كنا نتريق في النُزُل، ثم نخرج للشارع فنجد «مصطفى» و«صبهاتن» يقفان بانتظارنا، كالظل يتبعاننا، لا يتحدثان سوى التركية، لكننا تواصلنا بلغة الإنسانية
وقد تم تلقينهما أن يصحبانا كالمعقبات، للحماية، لا للمشاركة
الشاهد، سئمت القيود وحاولت التهرب منهما، وبالفعل نجحت، حيث دخلنا أحد الحوانيت من باب وخرجنا من آخر، ومنه ذهبنا لنصلي الظهر بمسجد سلطان أحمد.
بالمسجد، جاورتنا عجوز، كانت صورة طبق الأصل من جدتي
توددت أمي للعجوز، فخلعت خاتمها وأهدته لها، ثم بدأت تشرح لها بالإشارة أن ملامحها تطابق ملامح جدتي
لم يبد على العجوز أنها فهمت شيئا
رحت أتوضأ وتركت المرأة بصحبة أمي التي شرعت تُصلي، بينما العجوز تجلس خلفها
عدت من الميضة، لأجد والدتي في محرابها، لكني وجدت حقيبة أمي ولم أجد شبيهة جدتي
بعد الصلاة قالت والدتي: كم تشبه جدتك؟
:في الملامح، لا الروح
قالت: جاءت ورحلت كحُلم جميل
دعينا نخرج لمشاهدة مزارات اسطنبول، قلت:
لكنها صممت على زيارة البازار العتيق لشراء هدايا
استسلمت لرغبتها، وذهبنا للسوق، فوجدته مبهرًا
شرعت والدتي في الشراء، ففتحت حقيبتها لتنقد البائع ثمن مشترواتها، فلم تجد حافظة نقودها
عدنا للجامع بحثًا عن النقود، رغم إحساسنا أن الحافظة، سرقتها شبيهة جدتي أثناء صلاة والدتي
وجدت أمي جزعة، ربما لأن أحلامها في شراء الهدايا قد خارت، أو لأنه من المؤلم أن ترى شبيهة «أمك» في موقف وضيع، ولعلها تأكدت أن شبيهة جدتي لم تكن حلمًا جميلًا، بل كابوسًا مزعجًا.
كاتبة مصرية