تقول صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، «الأسرة هي نواة المجتمع ووحدته المصغّرة وهي الحاضنة التربوية للأجيال، إذا صَلُحَت صَلُح المجتمع.. وإذا تفكّكتْ تفكّكْ».

‏كان ذلك في افتتاح مؤتمر الدوحة الدولي حول الأسرة «2014»، وهذا الاختصار البليغ يحمل مدلولين هامين: أولهما الاهتمام الكبير بالأسرة، وثانيهما أن هذا الاهتمام ليس وليد اليوم، إذ لطالما كانت الأسرة محل الاهتمام الأكبر من جانب قيادتنا الرشيدة، التي أدركت مبكرا، أنها تشكل النواة الصلبة لمجتمعنا، ولأي مجتمع من المجتمعات، على اختلاف عاداته وتقاليده وقيمه، وإن كانت في المجتمعات العربية والإسلامية تأخذ أهمية خاصة للغاية، باعتبارها صورة مصغرة للمجتمع ودعامته الأولى التي تقوم مقام الأساس من البناء، وهو ما تنبهت له قطر مبكرا، فعملت على ترسيخ هذا الدور، مستندة في ذلك إلى تشريعات وقوانين، هدفها بناء الأسرة وفق أهم وأفضل الأسس، وبما يتناسب مع قيم وعادات وتراث مجتمعنا، والمستمدة جميعها من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، الذي اختص الأسرة بالاهتمام والرعاية، باعتبارها أساس استقرار المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع بأسره، منها تنطلق مسيرته، وفي رحابها تتبلور هويته.

لقد وقفت قطر على أهمية الأسرة في وقت مبكر، وأدركت بعمق أهميتها في تكوين وتحصين المجتمع، فأصدرت التشريعات والقوانين، وأنشأت المؤسسات التي من شأنها تحقيق الأهداف المرجوة، وقد نصت المادة «21» من الدستور على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، وينظم القانون الوسائل الكفيلة بحمايتها، وتدعيم كيانها وتقوية أواصرها والحفاظ على الأمومة والطفولة والشيخوخة في ظلها».

كما جاء في المادة «22»: «ترعى الدولة النشء، وتصونه من أسباب الفساد، وتحمية من الاستغلال، وتقيه شر الإهمال البدني والعقلي والروحي، وتوفر له الظروف المناسبة لتنمية ملكاته في شتى المجالات، على هدى من التربية السليمة».

وفي الحديث عن الأسرة والعناية بها، والحفاظ على تماسكها ورعايتها وتدبير شؤونها لا بد من الإشارة أيضا إلى قانون الأسرة رقم «22» لسنة «2006»، وهو قانون شامل ينظم جميع المسائل المتعلقة بالأسرة في دولة قطر، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات التي تعنى بالأسرة، ومن ذلك المؤسسة القطرية للعمل الاجتماعي، وهي مؤسسة تعنى بالتنمية الاجتماعية والبشرية وخدمة المجتمع القطري من خلال مراكزها المتخصصة في مجالات دعم الاستقرار الأسري ورعاية الأيتام وحماية الطفل والمرأة وتمكين الشباب ورعاية وتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة ورعاية كبار السن ودعم أصحاب الاضطرابات السلوكية.

وتتبع المؤسسة القطرية للعمل الاجتماعي، ثمانية مراكز هي: مركز الإنماء الاجتماعي (نماء)، ومركز (الشفلح) للأشخاص ذوي الإعاقة، ومركز الاستشارات العائلية (وفاق)، ومركز رعاية الأيتام (دريمة)، ومركز تمكين ورعاية كبار السن (إحسان)، ومركز الحماية والتأهيل الاجتماعي (أمان)، ومركز النور للمكفوفين، ومركز دعم الصحة السلوكية «دعم».

تحرص المؤسسة على التطوير والتميز في تقديم أفضل الخدمات وتمكين منتسبيها ودمجهم في المجتمع، كما تعزز دورها في رصد القضايا الاجتماعية والذي مكنها أن تكون الداعم والمناصر للقطاع الاجتماعي في قطر من خلال تفعيل الشراكات المؤسسية، وخلق ثقافة مؤسسية جديدة قوية وقادرة على مواجهة وإدارة الأزمات بكفاءة وفاعلية.

أيضا في الحديث عن حماية الأسرة لا بد من التوقف مليا أمام معهد الدوحة الدولي للأسرة، التابع لمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وهو معهد عالمي معني بإثراء القاعدة المعرفية حول الأسرة العربية، ومناصرة قضايا الأسرة عن طريق تعزيز ودعم السياسات الأسرية القائمة على الأدلة على الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، فهو يسهم بدور حيوي في جهود مؤسسة قطر الرامية إلى بناء مجتمعات تنعم بالصحة وتتمتع بأرقى مستويات التعليم، قوامها الأسر المتماسكة والمتلاحمة في دولة قطر والمنطقة بأسرها.

تتمثّل رؤية معهد الدوحة الدولي للأسرة في أن يصبح رائداً في المعرفة العالمية حول القضايا التي تواجه الأسرة العربية من خلال البحوث والسياسات والتواصل، لتحقيق رسالته المتعلقة بتعزيز تماسك الأسرة العربية من خلال البحوث والسياسات والتواصل والمناصرة على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.

في إبريل الماضي، دعا المعهد إلى جعل برامج التربية الوالدية ملزمة للوالدين الجدد في دولة قطر، استنادًا لدراسات نفذها بهذا الخصوص، أظهرت نتائجها مدى أهمية إكساب الوالدين المهارات الأساسية لتربية الأبناء، وقد نشر المعهد أكثر من «150» منتجا بحثيا مرفقا بالأدلة لدعم السياسات الأسرية، وشارك أكثر من «800» مفكر وصانع سياسات ومؤثر عالمي لمناصرة قضايا الأسرة في فعاليات المعهد الوطنية والإقليمية والدولية، كما نظم المعهد «86» مؤتمراً واجتماع خبراء ومنتديات وندوات وطنية ودولية، وكان من نتيجة ذلك أن حصل على «3» جوائز تميز على المستوى الخليجي والعربي والدولي، منها جائزة الأسرة السنوية لعام «2018»، من قبل الاتحاد الدولي لتنمية الأسرة، كما حصل على جائزة المؤسسات الصديقة للأسرة لعام «2020» من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية- قطاع الشؤون الاجتماعية، إدارة المرأة والطفولة، وجائزة المشروعات الرائدة في مجال العمل الاجتماعي من لجنة مجلس وزراء العمل والشؤون- التنمية الاجتماعية بمجلس التعاون لدول الخليج العربية.=

هذه الجهود الكبيرة والمقدرة سوف يتم تتويجها اليوم بمؤتمر دولي احتفالاً بالذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة IYF، بمشاركة نخبة من القادة العاملين وواضعي السياسات والباحثين والممارسين وممثلي المنظمات الدولية والأهلية لاستكشاف التفاعلات الديناميكية بين المنظومة الأسرية والاتجاهات الكبرى المعاصرة، بما في ذلك التقدم التكنولوجي والهجرة والتمدن والتحولات الديموغرافية والتغيرات المناخية.

يُقام المؤتمر تحت عنوان «الأسرة والاتجاهات الكبرى المعاصرة»، بمشاركة عدد من الجهات الفاعلة، على رأسها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة، كشريك استراتيجي للمؤتمر، واللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات بوزارة الخارجية، كشريك تنفيذي، وبدعم من إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى مركز مناظرات قطر، الذي أنشأته مؤسسة قطر، كشريك شبابي للمؤتمر.

كما هو معروف فقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن السنة الدولية للأسرة في عام «1994»، معترفة بالأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع، وبالتالي ينبغي أن تحظى بأكبر قدر ممكن من الحماية والمساعدة، وفقًا للمواثيق المُصادق عليها دوليًا، ويضطلع مؤتمر السنة الدولية للأسرة، الذي يُعقد مرة كل عقد من الزمان بدور محوري في تطوير السياسات والبرامج التي يمكنها دعم وتمكين الأسر على نطاق عالمي.

وتركز النسخة الثامنة من المؤتمر على موضوع مؤسسة الأسرة بدول الخليج العربية، حيث يتزايد الاهتمام بها مع تزايد التحديات، التي تواجه المجتمع الخليجي مع الانفتاح العالمي عبر ثورة الاتصالات.

وتتناول القضايا التي تهم الأسرة الخليجية كسن الزواج، وتحديات تأسيس الأسرة، ومدى التغيرات التي طرأت، سيما في ظل تراجع الأسرة الكبيرة، والتحول نحو الأسرة محدودة العدد من الأطفال، وسيتم نشر أوراق المؤتمر في كتاب يوثق للنقاشات، وينقل المعرفة للأجيال القادمة، كما سيناقش المؤتمر الاتجاهات الديموغرافية، مثل انخفاض معدلات الخصوبة وشيخوخة المجتمعات، في جلسات تستعرض التحديات والسياسات التي تهدف إلى زيادة الخصوبة، وتلك التي يمكن أن تحسن التوازن بين العمل والحياة الأسرية.

وكما أكدت الدكتورة شريفة نعمان العمادي، المدير التنفيذي لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، فإنه سيتم طرح حلول مبتكرة وعرضها من قبل الخبراء والمشاركين، بهدف تعزيز هذه السياسات، وستتم مناقشة أيضا السياسات القائمة والمطلوبة فيما يتعلق بتأثير التكنولوجيا الرقمية على رفاه الأطفال، مع استعراض الحلول المناسبة لكيفية الاستفادة من التقنيات والبرامج الرقمية الجديدة، ووسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على العلاقات الزوجية، علاوة على تأثير الذكاء الاصطناعي على خصوصية الأسر، ودورها في تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، مع التركيز بشكل خاص على الارتقاء بأدوات التعليم والتعلم للكبار والصغار، بما في ذلك التصميم والتخطيط لرعاية كبار السن، وسيركز النقاش في محور تغير المناخ، على تصميم المدن الصديقة للأسرة والحلول التي تعتمد على الموارد الطبيعية في البيئة المحيطة للتعامل مع التحديات المعاصرة، مثل الهجرة القسرية الناجمة عن التغير المناخي، وانعدام الأمن الغذائي، والقلق البيئي.

كل هذه قضايا هامة للغاية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار خبرات المشاركين، فإن المحصلة ستكون في غاية الأهمية، شريطة أن تترجم التوصيات بما يجعلها في متناول القائمين على قضايا الأسرة، من أجل الاستفادة منها، عن طريق وضع مجموعة من الأولويات الاستراتيجية والمبادرات الطموحة، وتوسيع نطاق الدراسات، وتطوير استراتيجيات مناصرة أكثر فعالية، وإنشاء شراكات قوية، وتصميم سياسات وبرامج خاصة لدعم الأفراد ذوي الإعاقة والأمهات العاملات والأسر ذات الدخل المحدود، كما قالت الدكتورة العمادي.

إن التحدي الأكبر يتمثل في إيصال كل ذلك إلى الأسر بمختلف إمكانياتها وقدراتها. صحيح أن الإعلام يلعب دورا رئيسيا في ذلك، لكن النجاح في تحقيق الأهداف يستدعي ما هو أكثر من ذلك، أي وجود خريطة طريق إعلامية بالتنسيق من كل الأطراف المعنية لترجمة التوصيات والأبحاث والنقاشات وتبسيطها من أجل تمكين الأسر من الوقوف على أهميتها والاسترشاد بها.

إن ما رأيناه حتى الآن من خطط وبرامج لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، يجعلنا نستبشر خيرا، فليس المطلوب تنظيم الفعاليات وإنما العمل على ترجمة توصياتها بدقة، وهذا ما لمسناه من المعهد، ومن مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، الذي هو عضو فيها، لذلك كله يحدونا الأمل بنقاشات وتوصيات وبحوث تسهم في تعزيز الوعي بالأسرة ومسؤولياتها بما يضمن لأجيالنا القادمة قاعدة متينة من التمكين المطلوب، خاصة عندما يتعلق الأمر بتأثير التكنولوجيا الرقمية، وهي قضية في غاية الأهمية لا بد أمامها من وضع الحلول بحيث يتم الاستفادة من التقنيات والبرامج الرقمية الجديدة، ووسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على تمتين أواصر العلاقات الزوجية، والحفاظ على خصوصية الأسر، وهذه من القضايا الملحة في عالم اليوم، خاصة في منطقة الخليج، بسبب توفر التكنولوجيات الحديثة والقدرة على الوصول إليها.

تحية تقدير لمعهد الدوحة الدولي للأسرة في الذكرى الثلاثين للسنة الدولية للأسرة، والأمل معقود على الخروج بتوصيات تسهم في تحقيق ما نطمح إليه جميعا.

محمد حجي - رئيس التحرير المسؤول