لم يكن تعليم الأديب المصري الكبير « عباس محمود العقاد» المولود بأرياف أسوان في العام 1889م يتجاوز المرحلة الابتدائية لكنه ثقف نفسه بالاطلاع الجاد ومخالطة المجالس الأدبية والاستماع إلى المطارحات الشعرية، وقد التحق بعدد من الوظائف الحكومية قبل أن يتجه نحو العمل الصحفي فكتب في أشهر الصحف والمجلات وخاض العديد من المعارك الفكرية مع كبار الأدباء والشعراء، وكان دائم الصدام وفي كل الاتجاهات لا يسلم من نقده أحد وشديد الاعتداد بنفسه ومدركاً لمكانته وعلو منزلته ويرى أن النجومية ليست المقياس الأوحد للإبداع والمعرفة، فقد سأله صحفي: «من منكما أكثر شهرة أنت أم محمود شكوكو؟» فأجاب بأنه لا يعرفه!، وكان نجم «شكوكو» قد أخذ في الصعود منذ منتصف القرن الماضي ونال شعبية واسعة بفضل تقديم نفسه كممثل ومنولوجست مرتدياً جلباباً وطاقية الأراجوز الطويلة حتى أُطلق عليه «شارلي شابلن» العرب، وهو أمي عمل كصبي نجار في محل والده وفي عز مجده الفني أنشأ ورشة مستقلة به لكنه كان مختالاً بنفسه وقال في حوار نشرته جريدة آخر ساعة في 4 مايو 1949م إنه فيلسوف وحكيم وأشعر من «أحمد شوقي» وتساءل قائلاً: «هل يستطيع شوقي مثلاً أن يقول: يا ساكن قلبي ومبلط إمتى حتعزل؟»!، لذلك فقد كان العقاد قاسياً في إيصال الرسالة إليه وقد رد عليها متحدياً بقوله للصحفي: «بلغ صاحبك العقاد بأن يذهب إلى ميدان التحرير ويقف كل منا على رصيف ولنرى من منا سيجتمع الناس حوله أكثر!؟»، ولم يقصر الصحفي في نقل هذا التحدي إلى «العقاد» فرد قائلاً: «قل له أن يبقي واقفاً على الرصيف وليأتي بأية راقصة تقف مكاني وعندها سنتأكد في أي اتجاه ستذهب كل الجماهير».

ساهم «العقاد» في تأسيس مدرسة الديوان حيث دعا إلى تجديد الخيال والصور الشعرية والتزام الوحدة العضوية في البناء الشعري، وكان معروفاً باهتمامه بالفكر الإسلامى وله عاطفة قوية في الدفاع عنه ضد المستشرقين الأوروبيين، وإسهاماته في ذلك متنوعة تأتي على رأسها العبقريات التي بدأها بوضع مؤلفه (عبقرية محمد) في العام 1942م ثم بقية العبقريات في سير الخلفاء الراشدين، وهو يرى في كتابه (التفكير فريضة إسلامية) أن العقل في الإسلام هو مصدر أعمال المسلم وتصرفاته وأن عليه الاعتماد في ملكاته وقدراته، وقد تعدت كتبه ومؤلفاته المائة في الفكر والأدب والفلسفة وله عشرة دواوين شعرية كما له رواية وحيدة هي (رواية سارة) وطبعتها الأولى في العام 1939م وقد حاول فيها أن يغوص في أعماق النفس البشرية ودراسة العلاقات الإنسانية من خلال تحليل شخصية «سارة»، وتدور أحداث الرواية حول شاب مفكر وأديب في الثانية والثلاثين من عمره يلتقي بفتاة جميلة في الخامسة والعشرين وتنشأ بينهما علاقة غامضة تتكلف فيها الفتاة بالظهور أمامه كمثقفة بنقاشها الأدبي معه لكنها تجمع الكثير من التناقضات في شخصيتها، وقد شغل النقاد أنفسهم بالبحث عن الأسباب التي دفعت «العقاد» إلى كتابة الرواية وتحدثوا عن تجربة عاطفية جمعته بـ«سارة» تركت أثراً مريراً باقياً في نفسه إلا أنه رد عليهم في الطبعة الثانية من الرواية قائلاً إنه كتبها لغير شيء سوى أنه أراد أن يجرب قلمه في المجال القصصي، غير أن علاقته بالمرأة شابها الغموض والتردد وهو يتفق مع الفيلسوف الألماني «شوبنهاور» في نظرته إليها وقد جمعته بـالأديبة العربية «مي زيادة» علاقة حذرة تبادلا فيها رسائل يبدي كل منهما اهتمامه بالآخر دون أن ينتهيا إلى نقاط التقاء حاسمة، أما الممثلة المصرية السمراء «مديحة يسري» فكانت لا تخفي فرحتها بحبه لها وتذكر الكثير من أشعاره عنها وفي إحداها تناول كوفية ومعطفا من الصوف نسجتهما بيديها على التريكو وأهدتهما إليه وهي وقتئذ بنت العشرين و«العقاد» جاوز الخمسين ويعيش قلق المبدعين ويرفض الزواج لئلا يشغله عن الأدب، وقد كان من عادته أن ينعزل في بيته طوال اليوم للقراءة والكتابة مع بعض الراحة وسماع الموسيقى وأثناء الكتابة يتناول الفواكه ويرتشف عصير الليمون أو البرتقال المحلى بالعسل ويقول: «أنا أرحم من صديقي يوسف السباعي الذي يضع بجواره وهو يكتب البسبوسة والفول السوداني والحمص الأخضر».

كان «العقاد» يستقبل زواره بميعاد سابق في صالون منزله وأدنى تأخير يحرم زائره من مقابلته ولو كان وزيراً، إلا أن القاص والناقد السوداني الشاب «معاوية نور» كان يتردد على داره عفو الخاطر بلا ترتيب، وقد تركت وفاته المبكرة أثراً عميقاً في نفسه ودائماً ما كان يردد: «لو عاش معاوية لكان نجماً في عالم الفكر والأدب»، وأول ما فعله عندما لجأ إلى السودان في العام 1943م هرباً من النازية مع تقدم جنود «أرفين روميل» نحو مصر من الناحية الشرقية وقد كان مطلوباً لديها لمواقفه ضدها، هو أن زار قبر «معاوية» وذرف عليه دمعاً غالياً لا يخرج ممن في مثل جبروته ورثاه بقصيدة مطلعها: تبينت فيه الخلد يوم رأيته وما بان لي أن المنية آتية، وخلال إقامته القصيرة بالسودان كتب مؤلفه (عبقرية عمر بن الخطاب) ويقول في مقدمته: «ما أن شرعت في تأليفه حتى وجدت نفسي على سفر بغير أهبة إلى السودان وليس لي من المراجع إلا القليل، وكانت الصفحات الأولى التي كتبتها في القاهرة مما تركته مع المراجع الكثيرة فيها فأعدت كتابتها واستغنيت بمراجع الخرطوم عن المراجع التي أعجلني السفر عن نقلها لأن أدباء السودان وفضلاءه يدخرون جملة صالحة من هذه المراجع ويجودون بها بسخاء، فلا أذكر أن طلبت كتاباً في المساء إلا كان عندي في الصباح»، وكانت مكتبته تحوي أكثر من ثلاثين ألف كتاب موزعة في جميع أنحاء البيت وهو يشير إليها مخاطباً ضيوفه بقوله: «أنا أعيش على هذه الكتب»، ولما مرض بالقلب وتقرر حجزه بالمستشفى رفض وقال: «إن كنت سأموت فلن أموت إلا في منزلي وبين كتبي»، فنقل إلى داره بيد أنه لم يغير نمط حياته فقد كان على جانبه آخر كتابين طالعهما هما (شعر من المهجر) و(في أعقاب الثورة المصرية) الذي توقف فيه عند الصفحة رقم (55) قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة في 12 مارس من العام 1964م.بقلم د. جمال حسن عتموري

محام وكاتب