+ A
A -

كان قرار العودة إلى شخصيات الإحياء الإسلامي، وعلاماته الفارقة في طريق النهضة الإسلامية، يعتمد على حصيلة فكرية مؤلمة، لواقع حاضر العالم المسلم، وبالذات الوطن العربي، فانهيار مآلات الربيع العربي، لم يكن سقوطاً لمشروعٍ سياسي طارئ، ولكنه تحطم بنيان شامل، للرؤية الثورية ذاتها، وأن ربيع 2010 الذي تتابع بعد ذالك في عواصم عربية مهمة.. انتهى لغلة انتكاسات وفواتير دموية ضخمة، أحسب أن محرقة غزة 2023 - 2024 تأتي تبعاً لها، بغض النظر عن التقويم السياسي لكل محطة، فدفعُ المقاومة إلى مربع الساحات الإيرانية، الذي مثل الخديعة الكبرى في المأساة، لم يكن له أن يقع، لولا نجاح الثورات المضادة، في إسقاط ربيع مصر وربيع الشام.

ومن المفارقات العجيبة، أن إسقاط ثورة يناير في مصر، سواء سميناها ثورة أو انتفاضة، كانت عبر دول عربية خليجية وتل أبيب، وإسقاط ثورة سوريا، كان عبر إيران وأيضاً تل أبيب، بعدها تتالت النكبات وعُطلت القوة الفكرية، وهيمن المشروع الصهيوني على المنطقة.

وفي هذه اللحظة التي قُطعت الطرق عن غزة، دُفعت الضحية إلى مشروع وحدة الساحات الإيرانية، بغض النظر عن تضحيات وكفاح المقاومة الفلسطينية العظيم الخاص بها من الشهيدين ياسين حتى هنية، وهي المنتمية للأمة ولأهل الأرض، لكن تلك الشراكة الإقليمية، عادت فيها طهران تتابع خطوط المفاوضات مع الطرف الآخر الغربي، ولم تفقد قوتها ولا أذرعتها الرئيسية في مشروعها الذاتي، وبقيت غزة أمة وحدها تواجه الإرهاب النازي الصهيوني.

وقبل ملحمة غزة كان الوطن العربي، وشبابه في حالة صدمة وتيه، منحتها روح الصمود الأسطورية في غزة بعثاً جديداً، لكن عادت الأنفس للاختناق وهي تشهد لا الخذلان العربي فقط، بل الشراكة في المشروع الصهيوني ذاته.

هنا سقط الحطام على الحطام، وجاءت لحظة جديدة تؤكد لي ضرورة العودة إلى قصة البحث، عن طريق الإنقاذ لنهضة الأمة، الذي استبقتُ السعي فيه، قبل ملحمة غزة، فالاضطراب الواسع بات يلتهم فئات عديدة من الشباب العربي، في قضية هويتهم الشخصية، وفي مفاهيمهم الإيمانية، وفي التيه الشامل، عن معرفة الطريق، وبتنا نرصدُ أفكاراً جديدة، تنزع للتطرف في مسألة تاريخ التشريع الإسلامي، وفي الموقف من صدر الأمة، ومن بعض المسارات الفكرية، من الإيمان المطلق إلى الشك في كل شيء، إلى الكفر بفكر النهضة الإسلامي ومحاربته، لدى تيارات أخرى تنزع للسلفية أو المدارس المذهبية الأخرى.

وكأنما نحن نعود إلى الوراء، إلى لحظة وراثة الاستعمار للرجل المريض، وضياع البوصلة الأولى لمعرفة الطريق، فالنفوذ الاستعماري برز حضوره، من قلب العواصم العربية، مراعاةً لخوف أو متابعةً لمطمع، ولكن المسار الآخر لم يكن في قلة منابر التعليم الإسلامي، ولا الوعظي بل حتى الفكري، ولكن في طغيان الخطاب الشعبوي، وتتبع ما تمليه مصلحة المنصة، أو الشخصية، أو تصفيق الجمهور، وهذا ما قطع الطريق على التوقفات والمراجعات الضرورية، بل حتى الأفكار المحسومة في فكر النهضة.

فكان مالك بن نبي رحمه الله، هو أحد هذه الشخصيات التي رأيتُ أن نُعيد استدعائها بعمق أكبر، وننظر ما هي الأصول التي تجمع بين الإحيائيين، الذين أُضيفت لهم ميزة خاصة، وأُسس بنيانهم على أصول الشريعة، وما وصلنا له من تجريد التراث، لكون البحث عن سؤال الخيرية للأمة، سابقٌ لمجلة العروة الوثقى، وقد أخذ الراية فيهم وبينهم الغزالي والمسيري وبيغوفيتش ومالكوم إكس، وكان مالك بن نبي من طليعتهم.

ولكن ابن نبي طرح مفهوماً تواترَ حديثه عنه، وهو النهضة وحل مشكلات الوصول لها، ومشكلات أفكارها، ثم الانطلاق إلى عالمها، الذي نَحتهُ في مواجهة الغرب الكولونيالي، لكنه رغم ذالك اشتبك مع الحضارة الإنسانية، وتداخل أصل الفكرة الإسلامية عندهُ معها، رداً وتفنيداً وشراكة، فالحضارات عند مالك بن نبي، تظل في مساحة اشتراك واشتباك، وليست معزولة عن بعضها بأسوار حديدية، كما يعتقد البعض الذين انتقدهم مالك بن نبي في القرن الماضي، ولا يزال صوتهم مرتفعاً حتى اليوم.

ومالك بن نبي يطرح الحضارة في مسارين، الجوهر والآلة، فالجوهر مختلف يقيناً عنده في الإسلام، أما الآلة التي دَمجت بين الإنسان والتراب والزمان، فهي معادلة تنفيذية وقَعَت في تاريخ الأرض، وبالتالي ميزان التعامل معها، عبر دلائل ما وصلت إليه اتفاقاً أو اختلافاً، أو نقضاَ كلياً.

فهو كباحث صارم يرفض خلط الجوهر بإرث المستعمر أو بصادراته، ولكنهُ منفتحٌ على مناقشة الآلة لكن دون مشارطة مطلقة للمرجعية الغربية، مناضل في سبيل خلق مدار حرية جديد، لنهضة المسلم في عالم إنساني حر، تقود فيه خير أمة بقية البشرية.

copy short url   نسخ
03/11/2024
155