روى الذَّهبيُّ في سِير أعلام النبلاء أنَّ عبد الله بن مسعود جاء إلى مجلس عُمر بن الخطاب وهو يومذاك أمير المؤمنين، فكان ابنُ مسعودٍ لا يكاد يُرى بين الناس من قصر قامته، ونحول جسمه، فجعلَ عُمر يُلاطفه، ويتهلَّل وجهه، فلما مضى ابن مسعود، قال عُمر لجُلسائه: نحيلٌ مُلِئَ عِلماً!
درسٌ بليغٌ تعلَّمه عُمر بن الخطاب من مشهدٍ كان قد شهده زمن النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ذلكَ أنَّ ابن مسعودٍ صَعِدَ يوماً شجرةً ليجني منها، وكان نحيلاً جداً، دقيق الساقين، فجعلتْ الريحُ تكشف دِقَّة ساقيه، فجعلَ الصحابة يضحكون، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مِمَّ تضحكون؟
قالوا: يا رسول الله، من دِقَّةِ ساقيه!
فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أُحُد!
إنَّما المرءُ بقلبه لا بوزنه، وبعقله لا بماله، وبلسانه لا بثيابه!
إنكَ ترى الرجل القصير النحيل فلا تحسبه شيئاً وقد يكون بينه وبين الله عبادة ما كنتَ لِتُدرِكَها ولو عشتَ عُمراً آخر، وترى الرجل الوسيم الأنيق فتُكبره وهو يمشي على الأرض وهي تلعنه ممَّا فيه من فجور وغلظة! على أن ليس كل نحيل قصير صوَّاماً قوَّاماً، وليس كل وسيم غني فاجراً كفَّاراً، إنما القصد أن لا نحكم على الناس بالمظاهر، إنَّ الله خلقَ القبيح ليس عن عجز منه، وخلقَ الفقير ليس عن قلة ذات يد، ولكنه سبحانه جعل الدنيا دار امتحان، فإن لم تحترم الخلقَ فاحترم الخالق!
قال زهير بن أبي سُلمى:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحمِ والدمِ
ها هو شاعرٌ جاهليٌّ يُخبرنا أن المرء بقلبه ولسانه، بمشاعره وأخلاقه، بلِينه ولطفه، بكرمه ومنحه، بالإحساس بالآخرين، وبمدِّ يد المساعدة إليهم، بنُصرة الضعيف، ومُساعدة المسكين، والتودُّد إلى الفقير! بهذا يُقاس الناس عنده، لا بالمظاهر الفارغة!
شأن الناس دوماً، عامتهم وخاصتهم، أن تخدعهم المظاهر، ويعتقدون أن الإنسان بشكله ووزنه، وطوله وعرضه، وينسون أنَّ هذه أحكام طفولية بعيدة عن النُّضج، فضلاً عن بُعدها عن الدِّين!
كان عبد الملكِ بن مروان يسمعُ شِعر كُثيِّر عزَّة قبل أن يراه فيُعجبه كثيراً وقد رسم له في ذهنه صورة، فلما قَدِمَ كُثيِّرٌ عليه استقبحَ عبد الملك شكله، وقال المثل الشهير: أنْ تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه!
ويا لتعس من أغضبَ شاعراً، ولو كان الخليفة!
استجمع كُثيِّر كبرياءه، وقال لعبد الملك:
ترى الرجلَ النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسدٌ هصورُ
ويُعجبك الطريرُ إذا تراه
فيخلف ظنك الرجلُ الطريرُ
بُغاث الطير أطولها رِقاباً
ولم تطُل البُزاة ولا الصقور
ضعافُ الأُسد أكثرها زئيراً
وأصرمها اللواتي لا تزيرُ
فقال عبد الملك، لله دركَ، ما أفصحَ لسانك، وأضبطَ جنانك، وأطولَ عنانك، ثم قام إليه واسترضاه وطيَّب خاطره!بقلم: أدهم شرقاوي
درسٌ بليغٌ تعلَّمه عُمر بن الخطاب من مشهدٍ كان قد شهده زمن النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ذلكَ أنَّ ابن مسعودٍ صَعِدَ يوماً شجرةً ليجني منها، وكان نحيلاً جداً، دقيق الساقين، فجعلتْ الريحُ تكشف دِقَّة ساقيه، فجعلَ الصحابة يضحكون، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مِمَّ تضحكون؟
قالوا: يا رسول الله، من دِقَّةِ ساقيه!
فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أُحُد!
إنَّما المرءُ بقلبه لا بوزنه، وبعقله لا بماله، وبلسانه لا بثيابه!
إنكَ ترى الرجل القصير النحيل فلا تحسبه شيئاً وقد يكون بينه وبين الله عبادة ما كنتَ لِتُدرِكَها ولو عشتَ عُمراً آخر، وترى الرجل الوسيم الأنيق فتُكبره وهو يمشي على الأرض وهي تلعنه ممَّا فيه من فجور وغلظة! على أن ليس كل نحيل قصير صوَّاماً قوَّاماً، وليس كل وسيم غني فاجراً كفَّاراً، إنما القصد أن لا نحكم على الناس بالمظاهر، إنَّ الله خلقَ القبيح ليس عن عجز منه، وخلقَ الفقير ليس عن قلة ذات يد، ولكنه سبحانه جعل الدنيا دار امتحان، فإن لم تحترم الخلقَ فاحترم الخالق!
قال زهير بن أبي سُلمى:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم يبقَ إلا صورة اللحمِ والدمِ
ها هو شاعرٌ جاهليٌّ يُخبرنا أن المرء بقلبه ولسانه، بمشاعره وأخلاقه، بلِينه ولطفه، بكرمه ومنحه، بالإحساس بالآخرين، وبمدِّ يد المساعدة إليهم، بنُصرة الضعيف، ومُساعدة المسكين، والتودُّد إلى الفقير! بهذا يُقاس الناس عنده، لا بالمظاهر الفارغة!
شأن الناس دوماً، عامتهم وخاصتهم، أن تخدعهم المظاهر، ويعتقدون أن الإنسان بشكله ووزنه، وطوله وعرضه، وينسون أنَّ هذه أحكام طفولية بعيدة عن النُّضج، فضلاً عن بُعدها عن الدِّين!
كان عبد الملكِ بن مروان يسمعُ شِعر كُثيِّر عزَّة قبل أن يراه فيُعجبه كثيراً وقد رسم له في ذهنه صورة، فلما قَدِمَ كُثيِّرٌ عليه استقبحَ عبد الملك شكله، وقال المثل الشهير: أنْ تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه!
ويا لتعس من أغضبَ شاعراً، ولو كان الخليفة!
استجمع كُثيِّر كبرياءه، وقال لعبد الملك:
ترى الرجلَ النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسدٌ هصورُ
ويُعجبك الطريرُ إذا تراه
فيخلف ظنك الرجلُ الطريرُ
بُغاث الطير أطولها رِقاباً
ولم تطُل البُزاة ولا الصقور
ضعافُ الأُسد أكثرها زئيراً
وأصرمها اللواتي لا تزيرُ
فقال عبد الملك، لله دركَ، ما أفصحَ لسانك، وأضبطَ جنانك، وأطولَ عنانك، ثم قام إليه واسترضاه وطيَّب خاطره!بقلم: أدهم شرقاوي