تجولت باكرا في العديد من مقار الاستفتاء، عندما خرجت كانت الحرارة ما دون الـ«30» درجة مئوية، الطقس جميل، والكل في طريقه إلى الموعد المنتظر للإدلاء بصوته، كان الحضور الشعبي حاشدا منذ ساعات الصباح الأولى والأجواء حماسية عكست حرص الجميع على إنجاح هذا الحدث الوطني الاستثنائي، واستشعار المسؤولية تجاه الوطن، وتعزيز نسيجه الاجتماعي في أبهى صورة وحلة، فجاءت نتائج الاستفتاء بحجم كل ذلك حيث أسفرت على نسبة قبول موافقة شعبية بلغت 90.6 بالمئة من إجمالي الأصوات الصحيحة.

كنا على موعد مع حدث وطني اجتماعي في آن، فالاستفتاء على مشروع التعديلات الدستورية لم يكن بمثابة حق وواجب بالنسبة لنا جميعا فحسب، بل تحول إلى طقس اجتماعي حقيقي عكس طبيعة شعبنا وتضامنه وتكاتفه وولائه لقيادته، وإيمانه بوطنه.

مقار الاستفتاء كانت مناسبة للقيام بواجبنا الوطني، ومناسبة لتبادل الأحاديث، وكان لافتا ذلك الإجماع الفريد على أهمية هذا التعديل، إذ أنه جاء معبرا عن طبيعتنا وطبيعة مجتمعنا، وفي الوقت الذي تتناول فيه الدراسات قضايا التحول في الخليج العربي عامة، سواء بسبب الثروة النفطية، أو بسبب التطور التكنولوجي الهائل والاستخدام الواسع في السنوات الأخيرة لتقنيات التواصل الاجتماعي والضغوط التي يفرضها الفضاء السيبراني؛ ما يدفع نحو تغيرات هائلة وعميقة على صعيد التكيف معها، ومع التحولات التي أحدثتها وشكلت في أحد وجوهها تحديا ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، إلا أن ما رأيته في هذه المناسبة كان مفاجئا تماما.

كان شعبنا الذي ألفناه، وعاداتنا التي نشأنا عليها، وقيمنا التي لطالما توارثناها وأجدنا الحفاظ عليها، وقد أعادتنا هذه المناسبة إلى الينابيع الأولى التي استقينا منها أصالتنا.

فجأة تنحت كل التحديات المتعلقة بالهوية، لتفسح أمام هوية لم تتبدل ولم تتغير، على الرغم من التحديات المستمرة بسبب النهضة السريعة التي عايشناها، وقد تابعت الكثير من الندوات وطالعت العديد من البحوث التي تناولت هذا الموضوع؛ بسبب الاهتمام المتزايد بالتحديات التي فرضتها العديد من التحولات، مثل عدم توازن التركيبة السكانية والتأثيرات الخارجية، بما في ذلك التطورات العالمية والتقنية، فضلاً عن التحديات الخارجية والتي في مجموعها تركت العديد من الآثار على الهوية الوطنية، التي تشمل الدين واللغة والتاريخ والسمات الثقافية والاجتماعية المشتركة، ولطالما رأيت أن هذه التحديات تستدعي تعزيز مفهوم الانتماء عبر ندوات ودراسات وتوصيات تسفر عن نتائج من شأنها تحقيق الأهداف المرجوة بما يسهم في الحفاظ على هويتنا الوطنية.

بالأمس اكتشفت أننا بألف خير، وأن التحديات التي تواجه الهوية الوطنية، مازالت أقل من غيرنا، حتى في ظل هذا التطور المتسارع الذي نعيشه.

قابلت أخوة أعزاء شاركوا في الاستفتاء مع أطفالهم، وكانت تلك المشاركة في غاية الأهمية وكأنهم ينقلون قيمنا وإرثنا وتكاتفنا من جيل إلى جيل.

هنا أدركت، أكثر من كل الأيام التي مضت، أهمية مشاركتنا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فهي لم تكن مجرد تعبير عن الرأي، ولا مجرد مشاركة بمناسبة هامة، بقدر ما كانت بمثابة استفتاء على قيمنا وتآلفنا ووحدة مصيرنا.

لطالما كانت الهوية بمثابة كيان حي قابل للتغير والتطور بمرور الوقت، سواء بسبب العوامل الداخلية أو التأثيرات الخارجية، لكن هويتنا الوطنية حافظت على أصالتها، منطلقة من ذلك المخزون الكبير من القيم والعادات والتقاليد التي تبدت بأبهى صورها أمس.

التعديلات الدستورية في جوهرها استهدفت كل ذلك، أي الحفاظ على القيم الأصيلة والتكاتف العميق بين أبناء مجتمعنا، وفي الواقع فقد تجلى ذلك في الخطاب التاريخي لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، لدى افتتاح سموه دور الانعقاد العادي الرابع من الفصل التشريعي الأول، الموافق لدور الانعقاد السنوي الثالث والخمسين لمجلس الشورى، حيث أوضح في معرض إعلانه عن مشروع التعديلات الدستورية، بأننا «كلنا في قطر أهل. والتنافس بين المرشحين للعضوية في مجلس الشورى جرى داخل العوائل والقبائل، وهناك تقديرات مختلفة بشأن تداعيات مثل هذا التنافس على أعرافنا وتقاليدنا ومؤسساتنا الاجتماعية الأهلية وتماسكها. إذ يتخذ طابعًا هوياتيًا لا قبل لنا به وما قد ينجم عنه مع الوقت من ملابسات نحن في غنى عنها. لقد بينت التجربة القطرية أن الجوانب الإيجابية في مؤسساتنا الأهلية لم تكن عائقًا أمام التطور، بل عاملًا مساعدًا فيه، وشكلت قاعدةً راسخةً مكنتنا من الجمع بين أصالتنا وحداثتنا».

إذا فقد كانت قضية الحفاظ على أعرافنا وتقاليدنا ومؤسساتنا الاجتماعية الأهلية وتماسكها، هي الشغل الشاغل لصاحب السمو، الأمر الذي استدعى هذه التعديلات، وفي الواقع فإن الحفاظ على هذه الأعراف والتقاليد والدفع باتجاه تماسكها، هو الأساس المتين في الحفاظ على هويتنا الوطنة ككل، وهذا ما دفعنا بالأمس للاستفتاء على التعديلات بـ«نعم كبيرة» قالها الجميع شيبا وشبانا، والذين اصطحبوا أبناءهم لهذا «العرس الوطني» إنما كانوا ينقلون مشعل قيمنا من يد إلى يد، فهي أساس نهضتنا وجوهرها.

لطالما كان موضوع الانتشار الواسع للهجات واللغات الأجنبية، والعادات الوافدة، وتأثيرات التكنولوجيا ووسائل التواصل محل تساؤل، في ندوات متخصصة أو في مجالسنا التي نشأنا عليها، وما شهدته بالأمس، وأشهد عليه اليوم، أننا في حصن حصين، وأن قيمنا وعاداتنا وإرثنا العريق في أيد أمينة، بدليل هذه التعديلات التي استهدفت، من بين أمور أخرى، ترسيخ أعرافنا وتقاليدنا باعتبارها الطريق الصحيح لتقدمنا ورخائنا.

مما قاله صاحب السمو: هناك «غايتان تجمعان التعديلات الدستورية والتشريعية المرتبطة بها: الحرص على وحدة الشعب من جهة، والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات من جهة أخرى»، قبل أن يضيف بأن «المساواة أمام القانون وفي القانون أساس الدولة الحديثة، وأيضًا واجب شرعي وأخلاقي ودستوري. إنه العدل الذي أمرنا الله به، ولا نقبل بغيره. قال تعالى «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».

تشهد الأوطان فترات مصيرية في تاريخ مسيرتها ومحطات هامة تساهم في رفعتها وتقدمها وتحقيق تطلعات شعوبها، وفي كل هذه التحولات تعمل الدول على مواجهة كافة التحديات والصعاب بخلق حائط صلب من التكاتف والولاء للوطن.

وفي تاريخ وطننا العزيز الكثير من المحطات المفصلية والتاريخية التي لاتزال في ذاكرتنا، وما شهدناه يوم أمس كان إحدى هذه المحطات الهامة في مسيرة وطننا العزيز بعد أن لبى أبناء الوطن نداء القائد حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى- يحفظه الله- بالاستفتاء على التعديلات الدستورية، إدراكا من الجميع بأهمية هذه الخطوة في القفز بمسيرة بلادنا إلى المزيد من التقدم والرخاء، وتكريس المشاركة الشعبية في الشورى وصنع القرار، بالفعل كانت لحظة تاريخية رسمت خريطة طريق لمستقبل بلادنا واستمرار مشاريعه التنموية في كافة المجالات.

اليوم وبعد إعلان نتائج الاستفتاء نكون أمام مرحلة جديدة في مسيرة بلادنا التنموية والعطاء والعمل لتطورها وتقدمها وتحقيق تطلعاتنا، بأن تكون في مقدمة الدول المتقدمة، والروح الوطنية التي رسمها الشعب مع القيادة من دون شك ستساهم في خلق أرضية صلبة، عمادها الدستور ووحدة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.

أجيال قطر سوف تذكر يوم «5» نوفمبر «2024» بكل فخر وسوف تتحدث عنه بكل عز، وستقول إن أجداد وآباء هذا الوطن شاركوا في صنع مجد وطننا وعزته بعد أن قالوا: نعم للوطن.. نعم للوحدة الوطنية.

هذا ما قلنا له «نعم» بالأمس، «فقد كانت وحدتنا الوطنية مصدر قوتنا بعد التوفيق من الله سبحانه وتعالى، في مواجهة كل التحديات التي مررنا بها، ومن هنا فإن علينا دائمًا حين نراجع تجاربنا أن نضع وحدتنا وتماسكنا فوق أي اعتبار»، لذلك كانت المناسبة استثنائية، قال فيها شعبنا العزيز كلمته عبر إقبال قل نظيره للمشاركة في حدث وطني تاريخي، قال الجميع فيه «نعم للوطن»، وقالوا «نعم» لحماية الاستحقاقات والمكاسب الوطنية، بما يعزز مسيرة المجد التي نحياها في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، فهذه المشاركة لم تكن إنفاذا لمشروع التعديلات الدستورية فحسب، بل «نعم كبيرة» لولائنا وانتمائنا لهذا الوطن المعطاء وقيادته التي لم تأل جهدا في سبيل نهضتنا، التي نعيش أبهى وأجمل صورها على الإطلاق.

محمد حجي - رئيس التحرير المسؤول