+ A
A -
د. جمال حسن عتموري محامٍ وكاتب

wاعتُبرت محاكمات نورينبيرج الألمانية حدثاً قانونياً فريداً وفي غاية الأهمية لأنها أول محكمة جنائية دولية وإن كان أطرافها حصراً على المنتصرين في الحرب العالمية الثانية تحديدا وقد شُكلت بناءً على رغبتهم بموجب اتفاقية لندن 1945م لمحاكمة كبار القادة النازيين عن الجرائم المرتكبة ضد السلام، ويُؤخذ على هذه المحاكمات أنها أهدرت الكثير من المبادئ القانونية الراسخة في الفقه الجنائي بخاصة مبدأ الشرعية والعقوبة وقامت بتطبيق النصوص العقابية بأثر رجعي خلافاً لما يقضي به إعلان حقوق الإنسان والدساتير الحديثة والمبادئ المستقرة في العالم المتمدن وخلطت بين مسؤولية الدولة والمسؤولية الفردية للأشخاص كما كان سائداً في القانون الدولي التقليدي، وقد استندت هيئة الدفاع عن المتهمين على الدفع بعدم مشروعية لائحة الاتهام لأنها قد وُجهت عن جرائم غير منصوص عليها في القوانين الجنائية الوطنية وتشتمل على أفعال لم تكن محرمة لحظة ارتكابها وهذا يعنى تخلف الركن الشرعي للجريمة وعدم سابقة العقوبة الواجبة التطبيق على من يرتكب تلك الأفعال، ولمعالجة هذه الإشكاليات قامت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة بدراسة أحكام نورينبيرج واستخلصت منها سبعة مبادئ أساسية، أهمها الاعتراف بمسؤولية الفرد جنائياً على الصعيد الدولي ومبدأ تأثير الاشتراك والتخطيط لارتكاب الجرائم الدولية ومبدأ مسؤولية الرؤساء والقادة العسكريين عن الجرائم الدولية وسيادة القانون الدولي العام على القانون الوطني الداخلي وتقنين وتحديد الجرائم الدولية وحصرها في ثلاث جرائم رئيسة معروفة تأتي في مقدمتها جريمة الإبادة الجماعية.

في التوصية رقم (95/‏1/‏1946م) وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على المبادئ السبعة التي رفعتها إليها لجنة القانون الدولي مما أضفى عليها صفة الإلزام والشرعية القانونية الدولية ودفع بها إلى مواصلة الجهود لإنشاء قضاء دولي ودائم لمحاكمة من يثبت تورطه في جرائم الحرب، وهي الجرائم التي تم النص عليها في المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع المبرمة في أغسطس 1949م وانتهاكات البروتوكول الإضافى الثالث المبرم في 5 يونيو 1977م والتي تقع بحق المدنيين وأسرى الحرب، وقد شكلت الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية إرثاً فقهياً قيماً في بيان مفهوم الجماعات المشمولة بنطاق جريمة الإبادة الجماعية وتحديد الانتماء إليها لأن السلوك الإجرامي كجهة محل الجريمة يتسم بصفة تمييزية كالهوية الإثنية أو القومية أو العرقية أو الدينية للضحايا، ولا شك أن الصفة التمييزية للسلوك الإجرامي تساهم بصورة جلية في التفرقة بين الإبادة الجماعية التي يكون الدافع الأساسي من ارتكابها الأصل الإثني وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي تدخل فيها إبادة الجماعات السياسية والمناوئة.

وقد أخذت المحاكم الجنائية الخاصة ليوغسلافيا السابقة 1992م ورواندا في العام 1994م بالمعيار الشخصي كأساس لتحديد تلك الجماعة والانتماء إليها وذلك من خلال التصورات السائدة في المخيل الجماعي للضحايا وهو ما يطلق عليه بالتحديد الذاتي للضحية نفسه أو من خلال إرادة الآخرين وهم مرتكبو الجريمة، وهي جريمة يتطلب ركنها المادي ارتكاب أحد أفعال السلوك الإجرامي أو أكثر إثر هجوم متسع النطاق وانتشار الانتهاكات المترتبة عليه في سياق نمط سلوك مماثل.

ليس شرطاً أن يتوافر القصد الخاص أو نية الإبادة لدى جميع الأشخاص المخططين والمنفذين معاً فمن المألوف أن تُرتكب جريمة الإبادة الجماعية من خلال هرمية وظيفية معينة وعبر سلسلة من الأوامر، وعلى قمة الهرم يكون هناك المخططون والموجهون لارتكاب الجريمة وتتوافر لديهم نية التدمير ضد الجماعة المستهدفة فتتلقى الفئة المتربعة على قاعدة الهرم الأوامر الصادرة إليها منهم للقيام بجملة أفعال إجرامية ذات صلة بهذه الجريمة، وتتضافر معهم مسؤولية المستشارين والإعلاميين بالتحريض والاشتراك من خلال أعمال الدعاية والتعبئة التي يقومون بها بالوعيد بمزيد من الجرائم أو تبرير الأعمال الإجرامية المرتكبة وذلك عبر وسائل الإعلام والوسائط المختلفة، وليس من المتصور وقوع الجريمة نتيجة الإمتناع عن القيام بعمل إلا إذا كان هذا الامتناع مخالفاً لواجب قانوني ومن هنا تنهض مسؤولية الرئيس الأعلى عن امتناعه بالقيام بالتصرفات اللازمة للحيلولة دون ارتكاب الإبادة من قبل المرؤسين الخاضعين لسلطته أو وضع حد لجرائم شرع المرؤسين في اقترافها وتقاعسه عن منع وقوعها أو وضع حد لها أو المعاقبة عليها في حالة ارتكابها، وفي الأحكام الصادرة من المحكة الجنائية الدولية لرواندا فقد انعقدت المسؤولية في مواجهة عدد من الرؤساء نتيجة امتناعهم عن القيام باتخاذ التدابير اللازمة لوضع حد للمذابح المرتكبة من قبل مرؤسيهم وإن هذا الامتناع كان ناتجاً عن سوء نية أو على الأقل عندما يثبت أن الامتناع كان جسيماً إلى درجة تقود إلى الاستنتاج بانه ينطوي على قبول ورضا بأفعال مرؤسيه أو على سوء نية.

copy short url   نسخ
07/11/2024
0