مهنا الحبيلكنت أتساءل في شبابي دائماً عن رمزية المقاهي للكاتب وكوب الشاي البسيط، في رواق ذلك المقهى الضيّق، والذي كلما كان بسيطاً كلما كان مبهجاً.
كانت صورة الروائي الكبير أ. نجيب محفوظ رحمه الله في مخيلتي، عند استدعاء المقهى، كنتُ مغرماً بتلك الطقوس كنوع من المزار السياحي.
ومع أني زرت مصر لأيام محدودة في عام 1995، لكنها كانت زيارة قصيرة وكنتُ في ظرف متابعة لحالة طبية لأحد الأقرباء، فلم يتيسر لي استكمال التجول والأنس بالأزقة الضيّقة في الحسين.
لكن بعد المهجر اختلفت الحكاية، فتحول القلم إلى رفيق درب وكان ثالثنا هو المقهى.
وفي اسطنبول كان هو المؤنس الأوّل بعد بيوت الله والتقلب الروحي في مساجدها، ومن يعرف تركيا لغير السياح وخاصة اللاجئين السياسيين أو الإنسانيين، يعرف معنى قساوة الغربة هناك لفاقد اللغة التركية.
لكن المقهى الاسطنبولي وبالذات في اسطنبول القديمة كانت له نكهة خاصة بل كان بيت الغرباء، بقدح شاي أو قهوة، بست أو تسع ليرات، يكفي ليحتضنك المقهى، وتسبح في كوب الشاي التركي نفسياً، وفي عومك فيه ينقلك في استراحة بعيدة عن الأحزان.
انتقلت إلى كندا، فتغيرت الظروف ولكن نظام الحياة المهجرية والمجتمعات العربية مع الغرباء الجدد لا يتغيّر، ولذلك فإن المقهى له رونقه وروحه ولكن أين تجد ذلك هنا؟
فالشرق متحف جمالي حتى في كاسة الشاي وصرير الكرسي، وخبرة التنور، وطبق الفول أو الكِبدة، كان المقهى والشاي محضنٌ مكانيٌ ووجداني مع أني من أصحاب مزاج القهوة، ولكنها في العهد الصباحي فقط.
أما حديث المساء بوح النفس، فإن جلالة الشاي لا ينافسها مشروب، لكن لا طعم للشاي في تيم هورتون (مقهى كندي شهير) ولا غيره من مقاهي تورونتو.
فقط هناك مطعم ومقهى عربي وحيد مع كثرة المطاعم العربية، لكنه هو الذي حفظ للعرب طقوس المكان ومسرح المقهى المختلف، وهو استِ كان، أو استكانة، بمعنى (بيالة) الشاي أي الكوب الصغير الذي يشرب فيه أهل الخليج من عِراقٍهم إلى عُمانهم خمرتهم الحلال.
وكان في رمضان هو الوحيد الذي يسهر للثانية فجراً، فأولي وجهي نحوه بعد التراويح قبل جائحة كورونا، وهكذا في رمضان وغيره، اجتمع مع بعض الصحب الكرام وخاصة رفاق تورنتو الأعزاء مع رفيق الكويت أو الصحب من حضرموت وأرتيريا.
ونُسقط كل الرسميات ليتعالى أدب الفكاهة والممازحة، ونغرق في شاي أهلنا العراقيين، وبين أعيننا سطّر المطعم، على قائمة الطعام مطلع أغنية كنت أسمعها كثيرا في فتوتي للفنانة الشعبية الشهيرة عواطف محمد أو سليمة مراد، وهي أغنية من التراث العراقي، إن لم أكن مخطئاً.
خدري الجاي خدريه.. عيوني ألمن اخدره
كتبتها (جاي) لا شاي لأصول النطق لدينا في كل إقليم الخليج العربي.
ولا بأس أيضاً أن أتردد عليه وحيداً، حتى عرفني طاقم العمل ومدير المطعم بالصورة لا بالهوى.
فقدنا ذلك في موسم الوباء، وفي الأصل الأصدقاء، هم قلة من الأوفياء كطبيعة الحياة، وزمن الغربة والمهجر النهائي، فللناس شؤونهم فضلا عن القادم الجديد الذي لا يربطهم به رابط.
افتقد غريب تورونتو ذلك الملجأ النفسي للخواطر، ولم تعد الأبواب مفتوحة، حتى قدح الشاي الشرقي، ومنضدة الصرير، وريحة التنور، توارت في الوباء.
اللهم اجمع شملنا بهم ومن هو أغلى منهم، ليعود السمر وحوار الشاي بين المَهْجَريَين.
كانت صورة الروائي الكبير أ. نجيب محفوظ رحمه الله في مخيلتي، عند استدعاء المقهى، كنتُ مغرماً بتلك الطقوس كنوع من المزار السياحي.
ومع أني زرت مصر لأيام محدودة في عام 1995، لكنها كانت زيارة قصيرة وكنتُ في ظرف متابعة لحالة طبية لأحد الأقرباء، فلم يتيسر لي استكمال التجول والأنس بالأزقة الضيّقة في الحسين.
لكن بعد المهجر اختلفت الحكاية، فتحول القلم إلى رفيق درب وكان ثالثنا هو المقهى.
وفي اسطنبول كان هو المؤنس الأوّل بعد بيوت الله والتقلب الروحي في مساجدها، ومن يعرف تركيا لغير السياح وخاصة اللاجئين السياسيين أو الإنسانيين، يعرف معنى قساوة الغربة هناك لفاقد اللغة التركية.
لكن المقهى الاسطنبولي وبالذات في اسطنبول القديمة كانت له نكهة خاصة بل كان بيت الغرباء، بقدح شاي أو قهوة، بست أو تسع ليرات، يكفي ليحتضنك المقهى، وتسبح في كوب الشاي التركي نفسياً، وفي عومك فيه ينقلك في استراحة بعيدة عن الأحزان.
انتقلت إلى كندا، فتغيرت الظروف ولكن نظام الحياة المهجرية والمجتمعات العربية مع الغرباء الجدد لا يتغيّر، ولذلك فإن المقهى له رونقه وروحه ولكن أين تجد ذلك هنا؟
فالشرق متحف جمالي حتى في كاسة الشاي وصرير الكرسي، وخبرة التنور، وطبق الفول أو الكِبدة، كان المقهى والشاي محضنٌ مكانيٌ ووجداني مع أني من أصحاب مزاج القهوة، ولكنها في العهد الصباحي فقط.
أما حديث المساء بوح النفس، فإن جلالة الشاي لا ينافسها مشروب، لكن لا طعم للشاي في تيم هورتون (مقهى كندي شهير) ولا غيره من مقاهي تورونتو.
فقط هناك مطعم ومقهى عربي وحيد مع كثرة المطاعم العربية، لكنه هو الذي حفظ للعرب طقوس المكان ومسرح المقهى المختلف، وهو استِ كان، أو استكانة، بمعنى (بيالة) الشاي أي الكوب الصغير الذي يشرب فيه أهل الخليج من عِراقٍهم إلى عُمانهم خمرتهم الحلال.
وكان في رمضان هو الوحيد الذي يسهر للثانية فجراً، فأولي وجهي نحوه بعد التراويح قبل جائحة كورونا، وهكذا في رمضان وغيره، اجتمع مع بعض الصحب الكرام وخاصة رفاق تورنتو الأعزاء مع رفيق الكويت أو الصحب من حضرموت وأرتيريا.
ونُسقط كل الرسميات ليتعالى أدب الفكاهة والممازحة، ونغرق في شاي أهلنا العراقيين، وبين أعيننا سطّر المطعم، على قائمة الطعام مطلع أغنية كنت أسمعها كثيرا في فتوتي للفنانة الشعبية الشهيرة عواطف محمد أو سليمة مراد، وهي أغنية من التراث العراقي، إن لم أكن مخطئاً.
خدري الجاي خدريه.. عيوني ألمن اخدره
كتبتها (جاي) لا شاي لأصول النطق لدينا في كل إقليم الخليج العربي.
ولا بأس أيضاً أن أتردد عليه وحيداً، حتى عرفني طاقم العمل ومدير المطعم بالصورة لا بالهوى.
فقدنا ذلك في موسم الوباء، وفي الأصل الأصدقاء، هم قلة من الأوفياء كطبيعة الحياة، وزمن الغربة والمهجر النهائي، فللناس شؤونهم فضلا عن القادم الجديد الذي لا يربطهم به رابط.
افتقد غريب تورونتو ذلك الملجأ النفسي للخواطر، ولم تعد الأبواب مفتوحة، حتى قدح الشاي الشرقي، ومنضدة الصرير، وريحة التنور، توارت في الوباء.
اللهم اجمع شملنا بهم ومن هو أغلى منهم، ليعود السمر وحوار الشاي بين المَهْجَريَين.