مصطلح الاقتصاد الرقمي كأي مصطلح آخر تتعدد تعريفاته لفظا لكنها تتفق معنىً، وتلتقي في النهاية عند مفهوم واحد، مفاده أنه التفاعل والتكامل والتنسيق بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من جهة، وبين النشاط الاقتصادي المعتاد من جهة ثانية، وأصبح هذا الاقتصاد الرقمي توجها إجباريا مطلوبا، يفرضه التطور المتسارع في تكنولوجيا المعلومات التي أصبحت جزءا من حياة الناس، ومحركا أساسيا يدفع باتجاه زيادة معدل النمو الاقتصادي، وإصلاح الآليات التجارية والمالية بين الحكومات والمؤسسات والأفراد.

والأرقام المتعلقة بالاقتصاد الرقمي بقدر ما تثير الدهشة والذهول، تفرض ضرورة الوعي بأهميته، وسرعة الاندماج فيه، والعمل على حمايته من الهجمات والحروب السيبرانية التي تزعزع استقرار الأسواق التجارية والمالية على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، ولن يتأتى ذلك إلا بتحديث منظومة الأمن السيبراني لحماية أجهزة الحاسوب والشركات وتطبيقات البرامج والأنظمة والبيانات من الاختراقات.

وعن الأرقام فقبل عشر سنوات تقريبا كان الخبراء يتنبؤون بأن حجم الاقتصاد الرقمي سوف يصل إلى ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مليار دولار بحلول عام 2025، لكن الواقع خالف رؤاهم، وأثبت أن لا أحد يستطيع الجزم برقم محدد، لتسارع نموه طبقا للتطور المذهل في عالم التكنولوجيا الرقمية، وهذا من الفوارق الجوهرية بينه وبين الاقتصادي التقليدي الذي ينمو بطيئا.

معظم التقارير الصادرة عن البنك الدولي والمراكز البحثية في أميركا والصين تشير إلى أن ميزانية الاقتصاد العالمي الكلي تقدر بـنحو 87 تريليون دولار تقريبا، يستحوذ الاقتصاد الرقمي منها وحده رغم حداثته على 15 تريليون دولار، بينما يقدر فيه حجم الاقتصاد العربي الكلي بنحو 3 تريليونات دولار، فإن حجم الاقتصاد الرقمي منه يبلغ نحو 250 مليارات دولار، وطبقا لمؤشر الاقتصاد العالمي للعام 2023 احتلت أميركا المركز الأول والصين المركز الثاني والاتحاد الأوروبي المركز الثالث، وفي الوطن العربي، احتلت دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية ودولة قطر الترتيب الأول بفوارق بسيطة فيما بينها، واحتلت البحرين وعمان والكويت والأردن والمغرب وتونس ومصر الترتيب الثاني بفوارق بسيطة بينها أيضا، وذلك لثلاث سنوات على التوالي.

لن نستغرق كثيرا في تفاصيل الأرقام لأنها تقريبية ومتحركة، وما ذكر يكفي للقول بأن الاقتصاد الرقمي أخذ يعيد صياغة المستقبل ويرسم ملامحه الجديدة، مع تنامي اعتماد الشركات والحكومات والأفراد على التكنولوجيا، ويساهم بالنصيب الأوفر في بناء مجتمعات المعرفة والمعلومات عن طريق تسخير التكنولوجيا الرقمية من أجل تحقيق الأهداف التنموية، ومن الآن فصاعدا أصبح المخزون المعلوماتي والمعرفي جزءا أساسيا من رصيد المؤسسة الاقتصادية، تدير أنشطتها ومشاريعها استنادا إليه دون الحاجة للتحريك الفعلي للأفراد، فضلا عن إتمام المعاملات والصفقات التجارية وتحويل الأموال وعمليات الدفع وتداول العقود إلكترونيا، وأي مجتمع يندمج فيه سوف تنكمش رقعة الفقر لديه، وترتفع فيه صادرات مؤسسات الأعمال أضعافا مضاعفة، وتزداد مبيعات المنشآت الصغيرة والمتوسطة.

ويعمل الاقتصاد الرقمي إذا كان ضمن بيئة تحتية تكنولوجية متقدمة على تطوير مستوى الخدمات الحيوية المساندة للتنمية كالمستشفيات والمدارس والبنية التحتية للطاقة والزراعة، شريطة أن تصل خدمة الانترنت لكل الفئات ميسورة التكلفة، فالوصول الرقمي أصبح ضرورة لا بد منها لكل مواطن وليس ترفا تختص به قلة قليلة، وإلا سوف تتسع الفجوة الرقمية بين مجتمع وآخر.

بالنسبة لقطر فإنها تسير بخطى ثابتة على طريق بناء مجتمع معلوماتي متطور، مواكب لعصر الاقتصاد الرقمي، وذلك لوجود البنية التحتية التكنولوجية عالية الكفاءة المتوفرة للجميع، وآية ذلك تقرير مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية الصادر عن الأمم المتحدة لهذا العام، حيث تحتل قطر الترتيب الخامس عالميا، فضلا عن الأجندة الرقمية التي تتضمن عدة محاور هامة أبرزها بناء حكومة رقمية متكاملة وتطوير بنية تحتية رقمية آمنة، وحديثا تدشين تطبيق هوية قطر الرقمية الأسبوع الماضي.

هذه القفزات النوعية في مجتمعنا من شأنها العمل على بروز كوادر ماهرة في تطوير قدرات الأمن السيبراني، ورواد يشاركون بدور رئيسي في تطوير ونمو الاقتصاد الرقمي، بتأسيس شركات ناجحة في مجال التكنولوجيا، وظهور مستثمرين يمولون هذه الشركات، ومخترعين يتوصلون إلى منتجات وخدمات تقنية جديدة، ورواد في التجارة الإلكترونية يطورون منصات للتسويق الرقمي، وخبراء في الذكاء الاصطناعي يساهمون في تحليل البيانات الضخمة، وغير ذلك مما يُحسِّن العمليات ويعزز الابتكار في الاقتصاد الرقمي.

وبشكل عام لا تؤتي عوائد الاقتصاد الرقمي أُوكلها أو ثمارها إلا بوجود آليات لحمايته من الاختراقات والهجمات السيبرانية، ولن يتأتى ذلك إلا بتطوير منظومة متكاملة للأمن السيبراني تكون حائط صد في مواجهة أية اختراقات من قبل الأفراد أو العصابات أو الدول التي أدخلت الحروب الالكترونية ضمن عملياتها العسكرية.

ولأهمية تطوير الأمن السيبراني يكفي ما جاء في تقرير المخاطر العالمية لعام 2023 حيث أكد أن الهجمات السيبرانية من أخطر ما يواجه الاقتصاد العالمي، وأن 25 % منها استهدفت قطاع الصناعات التحويلية والقطاع المالي، وبلغت الخسائر 8.4 تريليون دولار على مستوى العالم في عام 2022، وقد تصل إلى 24 تريليون دولار عام 2027.

هذه الهجمات تسببت في زعزعة الأسواق والبورصات العالمية بسبب قطع خدمات الانترنت لتعطيل آليات الموافقة على المعاملات المالية في أنظمة بطاقات الائتمان، وتحويل الأموال إلى حسابات المخربين والجهات المعادية، وإضعاف المؤسسات الصناعية ومراكز الإنتاج، وحذف معلومات تخص جهات سيادية تتعلق بالأمن الوطني، وسرقة معلومات على درجة بالغة من الأهمية، واختراق حسابات شخصيات هامة ومؤسسات حيوية لنشر معلومات مضللة عليها، وانتهاك الخصوصية وتعطيل عمل المرافق كالكهرباء والماء والطاقة والمدارس والمستشفيات وشركات الطيران والقائمة طويلة لا يتسع المجال لحصرها.

من المهم أن نعرف أن القراصنة والهاكرز لا يكفُّون عن البحث لاختراع أساليب جديدة ينفذون بها جرائمهم، وأصبحت برامجهم وتطبيقاتهم أكثر تعقيدا، ولذا لابد لمنظومة الأمن السيبراني أن تكون ذات بعد دولي وآخر محلي، فعلى الصعيد الدولي يجب التعاون بين الدول في سن قوانين تجرم الهجمات والحروب السيبرانية، وإنشاء هيئة دولية لتفعيل الأمن السيبراني بملاحقة المجرمين، وتوقيع بروتوكول ينص على هذا تلتزم جميع الدول به، وعلى المستوى المحلي يجدر بكل مؤسسة في المقام الأول أن تحتفظ بنسخ احتياطية من رصيدها المعلوماتي، ترجع إليه وقت المخاطر، وإحاطتها بالسرية التامة، وضرورة رصد طبيعة التهديدات الالكترونية التي يمكن أن تستهدفها، وتقييم مستوى الأمن السيبراني لديها، وكيفية تحديث برامجه، وتدريب كوادر من المبرمجين والمبتكرين لإنشاء برامج لمكافحة الفيروسات، والتنبؤ المسبق بالمخاطر، وتدريب الموظفين العاديين على حماية أجهزتهم التي يعملون عليها، وأخيرا وليس آخرا البقاء على اطلاع يومي بكل ما هو جديد في عالم الاقتصاد الرقمي والتهديدات الإلكترونية والأمن السيبراني.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات