سؤال ستتناقله الأجيال القادمة لأنها لن تعيشه كما كان، فقد غادر موسم الصيف ولم أر البحر، غادرت الشمس مبكرا ولم يعد الصيادون إلى مراكبهم، لا أنوار في العرائش، تساقط سعف النخيل من السقف، كأوراق الخريف، لا رائحة للاصداف، والفر ضل الطريق، الزواحف نأت بنفسها عن الحرب، ودخلت جحورها مبكرا، والأسماك هاجرت شاطئ غزة، كما طيور النورس، لا أغنيات للبحر، لم تعد الهمة قوية، بعد أن سقط ريس السفينة، التي احترقت قبل أن تغادر الميناء، لا منارات تدل على طريق البلاخية، لا أسماء على القوارب، فيما ذابت حبال المرسى، والبحر شق طريقه بين صخور المرفأ، ومطعم أبو حصيرة التحق برمل الشط، وعلامة الأرصاد لم تعد تعرف مجرى الرياح، لأن لا سفن في الأفق، لا مواقد للفحم، ولا لشوي السمك، ولا مكان لدق الأغنيات، ولا لدق زبدية الجمبري والسلطات، ولا أطفال يطلقون قبع الطائرات.
تناثرت حبات الذرة بعد ان سقط بائع البسطة، ولا منقذين على اليابس، فلا يوجد سباحون، المنقذون بين الركام، لم يعد هناك صيف يليق بغزة، ولا حتى شتاء، الخيام فقدت بريقها، ولم تعد للترف، بل مكانا للإيواء، يباغتها الرصاص، ومد الماء، الصدفات لم تعد تسمعني صوت البحر، بل مزيد من أزيز الطائرات، لم نعد نحب الغروب لأنه ينذرنا بليل طويل وفقدان، شتاء غزة في الرمال يعني ان تمشي في شوارع الجندي المجهول، معك النسكافيه الدافئ، وبعض من البزر المحمص.
لم يكن هناك وقت لأمشي أنا وحبيبتي تحت المطر، كانت غزة حبيبتي وحدها، أحاول أن أتأمل سماءها المكتظ بالغيوم، وأفسر بعض الظواهر خلال تأملي مثل تفسيري لسلوك الناس، دون أي جواب، المهم اني مستمتع بكل شيء حولي، كنت أمر من شارع البحر عند مطعم أبو حصيرة، أتفقد شكله بعد العاصفة، وتلاطش الأمواج، وهجرة مرتادي قهاوي العرائش، إلى داخل المدينة، إلى قهوة الكروان التي تتصاعد منها غيوم دخان الارجيلة، مع اشتداد غيوم المدينة، فيما يبقى الصيادون يتراقصون على قواربهم للبحث عن صيد وفير من الاسماك المهاجرة.
كان الغزاويون بشرا مثل باقي البشر، يسمعون فيروز في صباح الشتاء، ويودعون الليل بأم كلثوم، وعلى موسيقى ارتطام البرد بالواح الاسبست، أو على شرائح الكرميد، كنا نجمع حطب الشجر، لنوقد به نار الكانون، ونرمي فيه بعضا من الكستناء، وبراد الشاي عليه نعنع مسقي بندى المطر، كان جيش من المشاة حاملي الشمسيات يعبرون شوارع المدينة، كل إلى مدرسته أو عمله، فالمشي سمة الغزيين، فارضها منبسطة، كبساطة اهلها، وانبساطهم حين كانوا يعرفون الفرح، وكان يتخلل ذلك ملامح الالفة مجموعة من الأطفال يمسكون شمسية واحدة، وصديقين، يعبران البركة معا، وملامح العابرات تعكس فرح المطر.
كان الاصدقاء يبحثون عن ملاذ يجمعهم، يتسامرون ليل الشتاء الطويل، والصديقات يرتبن نهارهن، ويبدأن صباحهن بصور ستوري مع قهوة الصباح، وينثرون كلمات واشعارا ويتبادلن صورهن الجميلة، كان الطريق المبلل يعكس انارات المدينة، كان في غزة بشر ونساء يجمعن الغسيل مثل كل نساء العالم عند اول هبة مطر، ويسرع الأطفال لاخفاء دراجاتهم، والامهات يصرخن عليهم حين يدخلون باحذيتهم باب المنزل، خوفا على سجادة الصالة، فيما تبدأ أزمة السيارات عند حفر الماء، فيما نستمتع احيانا بجلسة ديليس نتفرج على المارة، في غزة لا تعرف شكل المثقفين، لأن المدينة لها ثقافتها الخاصة بها، ولا وقت للدخول في جدال سيكلوجي، فأنت تضيع لحظة الاستمتاع بشتاء غزة، فيما طاولة (الهند رمي) لعبة الورق، حاضرة، وتفرض نفسها، بين رجال المدينة، يلتحفون برنوسهم وعباياتهم، غير مستسلمين للجو البارد، فيما يغامر البعض للغوص في البحر الدافئ خلال المطر، فيما تغرق بعض المناطق الساحلية مثل الدير والبصة، وتتقدم الأمواج نحو اليابس، فيما مخيم الشاطئ، شامخا عاليا، كورنيشه الضيق، يشهد على هذا المنظر المهيب، أما الجدات فيضيعن وقتهن في الحديث واللهو مع الأحفاد، ومناداتهم بسبب ودون سبب، وحضنهم تارة والدعوة عليهم تارة أخرى، ثم الدعاء لهم قبل المنام، الذي ينزل فيه جبل الألحفة المخبأ خلف باب الغرفة، ليدفئ أفراد العائلة حين يخلدون إلى النوم... والآن قد ناموا جميعا بلا صحو...