كانت الشمس تعكس أشعتها على خصلات الشعر الأرجوانية المتدلية كعناقيد العنب الكروم وتتطاير على كتفي الفتاة ذات البشرة البرونزية فتضفي عليها صبغة متوهجة شديدة الحمرة والفتاة تحدق في الجماهير المتقاطرة لحضور مراسم تتويجها ملكة عليهم بعيون تحاكي في زرقتها البركانية أمواج البحر المتلاطمة، أنها «كليوباترا» ذات السبعة عشر ربيعا والابنة الصغرى لـ«بطليموس أوليس» المقدوني ملك مصر وقد وقف بجانبها ليجلسها بدلا عنه على كرسي العرش بعد أن أحس بالضعف ويسلمها صولجان الأفعى المقدسة المرصع بالجواهر- رمز الملك.

وكان في تقدير الحرس القديم من الحاشية الإغريقية المتمرسة بالبلاط الملكي أن يستمر حكم أبيها عن طريق شقيقها «ديونيسوس» لإمكانية السيطرة عليه وهي طموحة ولها شخصية طاغية، وكلما كانت تديم نظراتها في الجماهير المنتشية وهتافاتهم الداوية تشق عنان السماء تتحول عيناها عنهم بقلق وتستحيل إلى قرص مدمج بكل مشاهد ما يحاك وينسج من دسائس ومؤامرات لوضع منافسها مكانها بمباركة القيصر في روما، وبفارغ الصبر تنتظر اكتمال المراسم حتى تهمس في أذن وصيفتها المقربة «شرمين» وتزودها بتعليمات في غاية السرية، وما أن بدأ الليل يرخي سدوله إلا وكان «أبولو دورس» الصقلي الوفي وصاحب البنيان القوي يتسلل إلى مرفأ جانبي بشاطئ الإسكندرية ويهبط إلى مركب حاملاً حزمة من الأبسطة الملفوفة ويمضي مبحراً إلى أن يبلغ بلاط «كايوس يوليوس قيصر» ويخطر حاشيته بأن الأوامر التي تلقاها بألا يسلم هدية ملكة مصر إلا إلى القيصر شخصياً داخل مخدعه، فيتفاجأ القيصر واللفائف تُضع أمامه ومن بينها تنتصب «كليوباترا» واقفة كحورية البحر في ضوء القمر، وتمتد المفاجأة إلى شعب روما نفسه حين يوقفها حاكمهم صباح اليوم التالي بيمينه في شرفة قصره وعلى يساره قائده الشاب «مارك إنتوني» وقد أمسكت بصولجانها ويعلن تنصيب زوجته الجديدة ملكة لمصر تحت حماية روما، وكانت هي لا تجد كفاية في حبال الحماية التي شدتها بيدها لتوها بالقيصر إلا إذا أنجبت له طفلا يورثه في العرش، ولكنها تفجع بمجلس السينات النيابي الروماني وهي تضع مولودها «قيصرون» ذلك الصيف، يرفض إقرار وضعها كزوجة شرعية للقيصر ويحرض الشعب ضده لمخالفته قوانين روما وإرثها بزواجه من أجنبية، وقد اتفق وزراؤه وحاشيته على التخلص منه باغتياله مجتمعين فتلقى 26 طعنة من خناجر بعددها إلا أن أقساها كانت من صديقه ومحل ثقته «بروتس» فعبر عن صدمته وهو يلفظ أنفاسه بعبارته الشهيرة: «حتى أنت.. ؟!».

مضى عامان قبل أن تصل من الإسكندرية إلى روما سفينة لها أشرعة من الحرير الأرجواني ومجاديف فضية وكانت مقدمتها من ذهب يبرق تحت وهج الشمس مع ارتداد الفضة فيخطف الأبصار، وفي وسط السفينة أريكة عاجية و«كليوباترا» تستلقي على حشيتها المزخرفة وفوق رأسها تاج ذهبي على شكل زهرة اللوتس كأنها تمثال مرصع بالنجوم وفتيات بثياب بيضاء كزبد البحر يحطن بها وفي أيديهن مراوح ريش النعام والطواويس يلوحن بها لتجديد الهواء ورائحة العطور وسحب البخور وموسيقى حالمة تملأ الأرجاء، وكان الناس يتهامسون ويتسللون إلى الميناء إلى أن وجد القائد «مارك إنتوني» نفسه منساقاً معهم ويقف منبهراً كأنه يرى معجزة، ولم ينقض اليومان إلا وكان قد تزوجها وسُجل الزواج على عملة تحمل رسميهما وقدم لها صداقها ولاية فينيقيا وأجزاء من سوريا، وخلال بضعة سنوات كان «قيصرون» اليافع قد تلقى تاج مصر المزدوج كشريك لأمه وتوجا أبناء «إنتوني» منها وهما دون السادسة ملكين لأرمينيا وليبيا.

هنا يهب مجلس السينات ومعه المتعصبون لمجد روما لحماية قوانينها وإرثها الحضاري لأن «إنتوني» تزوج بساحرة أجنبية شريرة استطاعت أن تجعله خاضعاً لرغباتها ويوزع ولايات تحت الحماية الرومانية على أبنائها فبدأت الفيالق تتوجه نحو الإسكندرية لتأديبه، ومن أول وهلة يشعر «إنتوني» بهشاشة موقفه وتدرك «كليوباترا» أنها النهاية فتأمر ببناء ضريح لها به باب من الجرانيت لا سبيل إلى فتحه من الخارج ووضع فيه مجوهراتها لتأوي إليه هي و«إنتوني» فور تجرعهما سماً يعده لها أطباؤها ينقلها من الحياة في رفق ويبقى على جمالها، إلا أن فيلقاً رومانياً يسبقهما فيقضي على «إنتوني» وينفذ التعليمات بالإبقاء على حياتها لتجبر على السير في موكب النصر على مسرح الكلوسيوم مصفدة بأغلال من ذهب قبل إعدامها ولكنها تُجرح وهي تحاول قتل نفسها و«أوكتافيوس» يجن جنونه ويحشد أطباءه لتضميد جرحها حتى تكون جاهزة للسير في موكب نصره، وبعد مداواتها واطمئنانه إلى أن خطته تسير إلى نهايتها يستجيب إلى طلبها بزيارة قبر «إنتوني» فتذهب وسط حراسها وتغطي القبر بالزهور وتذرف عليه الدموع ثم تعود وهي تفكر في طريقة تتفادى بها عار ما ينتظرها، وفي الليلة التي تسبق السفر إلى روما يأتي فلاح حاملاً سلة بداخلها تين هدية إلى الملكة ويسمح له الحراس بالدخول بعد فحص محتوياتها، وفي حجرتها والرجل يضع السلة أمامها يتمتم مشيراً إلى جيب خفي: «إنها هنا يا مولاتي!».

وفي تلك الأثناء و«أوكتافيوس» يفرك يديه حبوراً لاقتراب موعد موكبه يلتفت فجأة نحو أحد ضباطه ويطلب منه أن يتفقد الملكة، والضابط يذهب ويرجع ملتاعاً ويخبر سيده بما رأه ويهرع «أوكتافيوس» إلى مخدعها ليجدها مستلقية على أريكتها الذهبية في أبهى ثيابها وتحيط بها رمز ملكها الأفعى المرصعة بالجواهر وقد تبدى جمالها وهي في التاسعة والثلاثين من عمرها في أروع مظاهره ولم ينل منه الموت شيئاً، وعند قدميها كانت وصيفتها المخلصة «إيريس» جثة هامدة و«شرميون» الوفية تتحامل على نفسها وهي تنسق الشعر تحت التاج لتنطق بآخر عبارة لها في حياتها: «هكذا تكون الميتة اللائقة بالملكة»، وكالمجنون يصرخ منادياً الأطباء ليسعفوها لتلحق بالموكب فيتدافعوا منكبين عليها وكل يبذل جهده وبيأس يرفع كبيرهم رأسه مشيراً نحو لدغتين في ثنية زراعها عند المرفق من حية لا يتجاوز مفعول سمها المميت الثواني وفى يدها وصية بأن تُدفن بجوار «إنتوني».د. جمال حسن عتموري

محامٍ وكاتب