أمام المشهد الاقتصادي العالمي سريع التغير، وكثير التحديات التي أبرزها اتساع فجوة التفاوت في التكنولوجيا الرقمية والتصنيع والاقتصاد والغذاء والصحة والتعليم وما تحقق من أهداف التنمية المستدامة الـ 17، تسعى الدول التي لا تريد التخلف عن الركب إلى تهيئة بيئة صالحة وحاضنة لملكات الابتكار، وتوفير مناخ مشجع على البحث العلمي، فكل منهما قاطرة الثاني وهما معا قاطرة التقدم، والمحرك الأقوى القادر على الوصول بالمجتمعات الطموحة إلى تحقيق التنمية المستدامة في ظل التحديات العالمية الواضحة للجميع والتي لا تخطئها عين، فالدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا كمجموعة السبع ما تقدمت إلا بفضل المبتكرين والباحثين الذين وفروا لبلادهم وللبشرية خدمات جليلة، لا تستقيم الحياة الحديثة ولا تسير إلا بها، إذ يعود الفضل لهم في اختراع الطائرات والقطارات والسيارات والسفن، والحواسيب بأنواعها، وتقنيات التلفاز والراديو، والهواتف الذكية والأرضية، وشبكات الاتصال والتواصل، وأجهزة التبريد والتسخين، والتوصل إلى وجود الكهرباء التي لا غنى عنها في أي مجال من مجالات الحياة، كل هذه وغيرها مما لا غنى عنها منتجات ابتكرتها عقول نيِّرة.
ولا يزال المبتكرون ينتجون أشياء جديدة غير مألوفة وغير تقليدية، تثير الدهشة والإعجاب، وتسهم في عمارة الأرض، وتحقق الرفاهية، ويمر الابتكار بعدة مراحل حددها خبراء الابتكار في وادي السيليكون بالتخيل والتفكير، والتحليل والبحث، والتوليد والتصميم، والتجريب والتطوير، والتنفيذ والتطبيق، والتقييم والتحسين، والمتابعة المستدامة، واشترطوا على أية مؤسسة تريد أن تحرز تفوقا في الابتكار توفير بيئة محفزة للإبداع، وداعمة له، بها مساحات للتجارب، وتوقُّع المخاطر المحسوبة، وتحفيز التعاون والتفاعل بين الفرق المختلفة داخل المؤسسة، والتخلص من النمط الروتيني، وتدريب فريق من الموظفين على الابتكار، مع تخصيص ميزانية لمكافأة المبتكرين المتميزين.
وتجدر الإشارة إلى أن مجرد الابتكار وحده ليس كافيا، وإنما يجب التفكير في إمكانات العميل المستهدَف الذي سوف يستفيد من المنتَج المبتَكر، وما إذا كان هذا المنتج يستحق الثمن الذي سيدفعه هذا العميل أو ذاك، ومراعاة أن الأسواق شهدت ابتكارات عظيمة فعلا، لكن تكلفتها كانت غير مناسبة لإمكانات واحتياجات العملاء المتقلبة، فالسوق يختار البدائل الأقل تكلفة، حتى لو كانت أقل فائدة بمقدار بسيط، فالسر الحقيقي هو تحقيق قيمة مقابل سعر، وفائدة مقابل مجهود، إذ من المهم جدا أن يساهم الابتكار في تحسين العمليات وتقليل التكاليف وزيادة الربحية، وتحقيق المزيد من الانتشار والتوسع، وقد أصبح هذا ميسورا عن ذي قبل باستخدام التكنولوجيا والحلول الذكية للتنظيم وتبسيط العمليات المعقدة، وتحقيق أفضل أداء وإنتاجية، وتعزيز سمعة العلامة التجارية للمؤسسة، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الابتكار لا ينحصر في عمليات الإنتاج فقط ولكن يتسع ليشمل الخدمات، وتطوير أساليب وتقنيات جديدة في التسويق الرقمي.
وبقدر الاهتمام بالابتكار يكون الاهتمام بالبحث العلمي فأهميته ودوره في تطور المجتمع اقتصاديا واجتماعيا أكدها تقرير للبنك الدولي كشف فيه أن تقدم الاقتصاد ونموه يعتمد أساسا على تراكم المعرفة والعلوم أكثر مما يعتمد على رأس المال، وأنه قاطرة الابتكار وفق عملية فكرية منظمة، يحدد الباحث فيها المشكلة أو الظاهرة، ويضع الأهداف، ويختار المناهج والأدوات المناسبة، ويفرض الفروض ويصيغ التساؤلات ويقدم الإجابات عنها لاختبارها، كل هذا من أجل تقصي الحقائق، وإضافة معلومة جديدة، وإثراء المعرفة، والوصول إلى حلول للمشكلات، يوصي بها أصحاب القرار في المؤسسة أو في الدولة بشكل عام.
والدول المتقدمة لا تدع البحوث تقف عند التنظير، أو مركونة على الرفوف، وإنما تحوِّلها إلى منتج عملي يساعد في التطور والازدهار، ويحفِّز على التفكير، فيكون بمثابة المقوم الرئيس في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، على المستويين الوطني والدولي.
حري بمن يطرق مثل هذه الموضوعات في الوطن العربي دعوة المؤسسات الكبرى فيه لأن تجعل ضمن هيكلها التنظيمي إدارة للبحث العلمي والابتكار، وتغيير الوضع الراهن الذي تتحمل الدولة فيه 97 % من ميزانية البحث العلمي، بعكس الدول الصناعية حيث يسهم القطاع الخاص فيها بالجزء الأكبر، يصل في أميركا والصين إلى حوالي 90 % وفي الاتحاد الأوروبي واليابان حوالي 85 %.
أما عن نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير من الإيرادات العامة للدولة فإن المفاجأة هنا هي تصدّرُ الكيان الإسرائيلي القائمة عالميا بنسبة 5.56 %، ولكن تصرفاتها وسلوكها المارق يؤكد أن ثلاثة أرباع هذه الميزانية تنفق على بحوث وابتكارات آلات القتل والتدمير، أما في الدول الصناعية، فتتراوح بين 1.8 % و3.4 %،، وتسهم الدول العربية بأقل من 1 %، بحسب مجموعة البنك الدولي ومعهد اليونسكو الإحصائي.
وعن الوضع في قطر تؤكد المؤشرات أنها على الطريق السليم، إذ تم اتخاذ قرار عام 2008 بزيادة مخصصات البحث العلمي لتصل لنسبة 1.5 % من الإيرادات العامة للدولة حتى العام 2030، وتأسس الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي، والعديد من المعاهد والمراكز البحثية، مثل واحة العلوم والتكنولوجيا على سبيل المثال التي تجمع بين البحوث التطبيقية والابتكارات التكنولوجية وريادة الأعمال، كما أن مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وضعت استراتيجية وطنية للبحث العلمي، ترتكز على محاور الطاقة والبيئة، وعلوم الحاسوب، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والعلوم الاجتماعية، والفنون والعلوم الإنسانية، من أجل بناء اقتصاد قائم على المعرفة، تحقيقا لرؤية قطر الوطنية 2030.
حان الوقت لأن تقتحم الدول العربية عالم الابتكار والبحث العلمي بنفس المستوى الذي تعمل فيه الدول الصناعية، فرصيد العرب من البحث والعلم والمعرفة تاريخيا يفوق رصيد غيرهم من الأمم، وقد أسهموا في الماضي بدور رائد في هذا الميدان، وطوروا مختلف العلوم مثل الفيزياء والكيمياء والطب والفلك وغيرها، ويعود الفضل للخوارزمي المولود ببغداد أو نشأ فيها في وضع علم الجبر وحل المعادلات الخطية والتربيعية بالخوارزميات التي تستخدم اليوم في برمجة الكمبيوتر، وغيره الكثير من العلماء الذين أسهموا في تطوير الحضارة خلال الفترة الذهبية من تاريخ حضارتنا العربية والإسلامية.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية