+ A
A -
جوني منيركاتب لبناني

كان من المفهوم أن تنشغل الأوساط الإعلامية والسياسية في البحث عن البنود الخلافية في التسوية التي يعمل عليها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين خلال زيارته المثيرة لبيروت. لكن وعلى رغم من أهمية التوصل إلى تفاهم حول هذه النقاط المثارة، إلّا أن مفتاح الحل يبقى في الخارج، تماماً كما كانت أسباب انفجار الحرب إقليمية ودولية أكثر منها لبنانية ومحلية.

وقبل التطرّق إلى البحث في قراءة التطورات الدولية، لا بدّ من نظرة سريعة إلى الملف الذي حمله هوكشتاين، وما حكي حول النقاط الخلافية. وبات معلوماً أنّ النقطة الأبرز تتعلق بحرّية العمل العسكري الإسرائيلي بعد وقف إطلاق النار. وعدا عن أنّ هذا البند يصيب السيادة الوطنية في الصميم، فإنّ التوازنات الميدانية لا تسمح لإسرائيل بهذا «الترف».

في الواقع لا بدّ من استكشاف حقيقة نيات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو وأيضاً الظروف الدولية المؤثرة. فعلى المستوى الإسرائيلي تبدو الثقة معدومة بالتزامات نتانياهو. ذلك أنّ اسلوبه التفاوضي في غزة لا يزال ماثلاً في الأذهان، حيث كان يجعل الأمور تبدو وكأنّها أصبحت قريبة جداً من التفاهم على وقف النار ليعمد من بعدها إلى إشعال الجبهات والاندفاع في جولات قتالية جديدة.

وثمة أربعة مؤشرات إسرائيلية لا تبعث على الارتياح:

ـ كيف يمكن تفسير اندفاع القوات الإسرائيلية في عمليات عسكرية هجومية في جنوب لبنان في الوقت الذي كان هوكشتاين يعمّم أجواءه الإيجابية في بيروت؟

ـ في كلمته الأخيرة أمام الكنيست التزم نتانياهو بأهداف ثلاثة لحربه على لبنان: خلق واقع أمني جديد حسب وصفه، ونزع صواريخ «حزب الله» (الدقيقة)، وإنهاء كل الطرق التي تؤمّن تزويد «حزب الله» بالسلاح، والمقصود هنا الحدود الجوية والبحرية والبرية خصوصاً. ولكن المشروع الذي يحمله هوكشتاين لم يلحظ أياً من هذه النقاط إلّا إذا كان هنالك ملحق سرّي يتمّ التكتم حوله.

ـ هل من المنطقي أن ينجز نتانياهو اتفاقاً كاملاً مع لبنان لإنهاء الحرب الجارية في وقت يثقل كاهله ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس»؟

ـ خلال الأسبوع الماضي زار وفد إسرائيلي الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في فلوريدا، وأعلن أنّ حكومة نتانياهو تريد «إهداءه» قرار وقف النار في لبنان كهدية مبكرة. وبالتالي، لماذا سيقدم ترامب على إعطاء اتفاق الآن سيسجله جو بايدن في سجله وليس دونالد ترامب؟ وهو ما يؤشر إلى أنّ نتانياهو سيسعى لـ«علك» الوقت وإحراقه من الآن وحتى موعد دخول ترامب إلى مكتبه البيضاوي تماماً كما فعل في غزة.

وقد لا تنحصر أسباب التشكيك في النقاط الثلاث التي وردت، فثمة ما يتعلق بالمصالح الدولية والإقليمية. فصحيح أنّ طهران تفضّل إنجاز الإتفاق في لبنان الآن من أجل التخفيف عن كاهلها وطأة الضغوط التي لوّح بها ترامب تجاه اقتصادها، إلّا أنّ حسابات ترامب وموسكو تبدو مختلفة. فواشنطن، وتحديداً المؤسسات العسكرية والأمنية ومراكز صنع القرار، تسعى إلى اتفاق في لبنان يشكّل حجراً إضافياً في سياق ترسيم خريطة جديدة للنفوذ السياسي في المنطقة. وهو ما يعني أنّها تريد إنجاز صفقة كاملة باتت ظروفها ملائمة وتضمّ إلى تل أبيب وبيروت، واشنطن وطهران وموسكو.

فعلى مستوى روسيا، لفت قرار إدارة بايدن بتعزيز دعم واشنطن لأوكرانيا قبل رحيله من خلال إعطاء الضوء الأخضر لكييف لاستخدام صواريخ «أتاكمس» بعيدة المدى لضرب العمق الروسي. وكذلك بتزويد أوكرانيا ألغاماً أرضية مضادة للأفراد، وهو ما سيؤدي إلى المساعدة في إبطاء التقدّم الروسي شرق أوكرانيا. وقد أثارت هاتان الخطوتان بعض الأصوات «الجمهورية»، والتي صنّفتها بأنّها في إطار وضع إدارة بايدن العراقيل أمام إدارة ترامب. لكن البعض الآخر من الجمهوريين رأى فيها أوراقاً تعزز موقع ترامب التفاوضي مع موسكو. ذلك أنّ الكرملين الذي يدرك جيداً حاجة واشنطن له لخلق واقع جديد وثابت على الحدود اللبنانية ـ السورية، يسعى إلى صفقة مربحة جداً تطاول إنهاء حرب أوكرانيا بشروطه وإزالة العقوبات عن اقتصاده وتوسيع دائرة نفوذه في الشرق الأوسط.

وفي الوقت نفسه بدأت طهران تتهيّب الضغوط عليها، بدءاً من الضغوط النووية، حيث تعتزم بريطانيا وفرنسا وألمانيا بدعم أميركي تقديم قرار يندّد بإيران لعدم تعاونها مع وكالة الطاقة الدولية وإبداء القلق من التطور السريع لبرنامج طهران النووي. وهذا يعني فتح المجال أمام مزيد من العقوبات والتشدّد في تطبيقها، في وقت تسعى طهران إلى العكس تماماً لإنقاذ اقتصادها وهذا ما دفع بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى التحذير من هذه الخطوة كونها ستزيد الأمور تعقيداً.

وهو ما يعني في اختصار، أنّ لبنان هو جزء من المشهد الكامل في المنطقة. وبالتالي فإنّ التسوية في لبنان تحتاج إلى نظرة شاملة بدأ العمل عليها، وحيث إنّ دخول ترامب إلى البيت الأبيض يشكّل خطوة داعمة لإنجاز كل هذا المشهد، وهو ما سيمنح في الوقت نفسه بداية ولايته الرئاسية الثانية بريقاً لم يحظ به أي من أسلافه.

ولهذا السبب هنالك من يعتقد أنّ ما سيحصل هو إنضاج بطيء لطبخة وقف النار في لبنان انتظاراً لبدء ولاية ترامب، إلّا إذا كانت هذه التفاهمات تمّت حياكتها سراً وباتت جاهزة للتطبيق على رغم من عدم وجود مؤشرات إليها.

copy short url   نسخ
22/11/2024
0