نعم أخاف عليكم مني. فأنا كائن عجيب. برغم استئناسي بالفكاهة وعشقي للموسيقى، وتلهفي على لقاء الناس، وسعادتي بالوقت الذي أمضيه مع الأصدقاء إلا أنني مع ذلك مخلوق شديد التبرم كثير القلق، يستبد بي الخوف الشديد من الوضع القائم، ويسيطر عليّ خوف أكبر من ذلك بكثير بسبب الوضع القادم. وأكثر ما أخشاه أن أنقل خوفي المستطير من القادم إليكم برغم أني أعلم أن الناس فيها ما يكفيها. لكن الإحساس بأمانة الكلمة والحرص على دقة وصف المشهد يحتمان عليّ أن أنقل بعض تفاصيله إليكم كما هي حتى لو كرهتموني.
وعندما أرجع بين حين وآخر إلى ما كتبته من قبل أجد نفسي متسقاً مع نفسي. كاتب متشائم نادراً ما يرى نوراً في نهاية النفق وكثيراً ما يتوقع الأسوأ بأن يأتي الغد بتحديات أشد ضرراً وأكثر تهديداً. فأنا لم أعتاد على زف البشارة لأني لا أجد شيئاً جوهرياً يدعوني إلى زف البشارة، بل كتبت في مرة بسخرية داعياً إلى تأسيس الجمعية العربية للمتشائمين، ولم أتعجب عندما تواصل معي بعض القراء طالبين الانضمام لها. فالكل يعلم أن دولنا العربية مخنوقة وأن منطقتنا مشنوقة وأن العالم بأسره لا يدعو إلى الاطمئنان وينتقل من درجة إلى أخرى أعلى من الجنون والسيولة والعدمية.
ثمة دخان حرب كبرى يتصاعد بين الكبار تهدد العالم بأكمله وتطحن الصغار. ونحن العرب من بين الصغار، ولا يجب أن نكذب على أنفسنا. وثمة عقائد نووية تعاد صياغتها بشكل قد يأخذ هذا العالم السائب في أية لحظة إلى محرقة كونية مرعبة. وهناك تنين صيني لا يكل عن التقدم، يلتهم كل يوم مربعات جديدة في شرق آسيا كانت حكراً على النفوذ الأميركي، ويطمح أثناء وبعد السيطرة عليها إلى الانتقال إلى مربعات أخرى حول العالم ليكسر بها هيمنة واشنطن السخيفة على النظام العالمي. وهناك على الجهة الأخرى رئيس أميركي قديم جديد ينتظر بلهفة العودة إلى البيت الأبيض ليقلب الدنيا كلها على رأس أهلها. ولدينا اتجاه لا يتوقف لموجات غلاء عالمي لم يعد أمامه سوى بضع خطوات ليسحق تماماً ما تبقى من الطبقة الوسطى حول العالم. كما يواجه سكان الأرض مرحلة تكنولوجية جديدة ليست سهلة يتصدرها الذكاء الاصطناعي الذي يهدد الإنسان بمعدلات غير مسبوقة من البطالة والإفقار. وأمامنا من جانب آخر ذلك الانتصار التاريخي للتفاهة والتافهين وذلك الموت الجماعي للتقاليد الكلاسيكية والسرديات والأفكار الكبرى.
كما نشهد استمراراً لصعود اليمين المتطرف الذي لا يكره فقط المهاجرين بل يكره الآخرين كل الآخرين. ونرى بأم أعيننا كل يوم كل العمليات الدولية الكبرى من حولنا وهي تتخبط. فالاعتماد المتبادل بين الدول ليس على ما يرام، حيث بات الكل قلقاً يغير تحالفاته ويستبدلها ليدخل في منظومات تعاون متضادة في ظل عالم سائل لم يعد تحديد المصالح فيه سهلاً أو واضحاً. كما أن التنمية باتت بوضوح للأغنياء، والحرية للأقوياء، والقانون لمصلحة القلة. باختصار الزمن كله زمن من الحروب المفتوحة الأهلية والإقليمية والدولية. وكلما تزامنت كلما طال أمدها.
أما العرب فحالهم حال إذ يواجهون تصميماً دولياً يسعى لاستكمال مشروع إسرائيل الكبرى الذي يهدف بمنتهى القوة والوقاحة إلى طيهم وطي الشرق الأوسط بأكمله تحت القيادة العبرية الكاملة للإقليم، كما لدينا بلداناً عربية عديدة ما تزال على الجاهلية برغم كل مكياجها الحداثي الكاذب. ولدينا قضية كانت مركزية خانها كثير من العرب بل بدأ بعضهم يعاقب من يتجرأ على نصرتها في مشهد غير مشرف وغير مسبوق من الاستضعاف الذاتي.
لست متفائلاً والرئيس الصيني «تشي بينج» يخاطب قيادات جيشه قبل أسابيع طالباً أن يستعدوا لمعركة كبرى. ولا مطمئن ونائب الرئيس الأميركي القادم «جي دي فانس» يطلب بمنتهى الوضوح من إسرائيل والمسلمين السنة دون الشيعة أن يلموا الدور ويتقاربوا معاً؛ لأن أميركا ذاهبة إلى شرق آسيا لمواجهة التنين. ولست مطمئناً لاعتياد العرب المزمن على الخنوع لأن من يعتاد المذلة إنما يشجع الناس على إبادته. ولست مطمئناً عندما أسمع «ليندسي جراهام» السيناتور الأميركي المتطرف آكل أموال العرب والمحتقر لحقوقهم والراعي الأكبر في الكونغرس الأميركي لعربدة إسرائيل وهو يصف قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتانياهو وجالنت بأنه «دهس لسيادة القانون» متوعداً أي دولة يخطر على بالها استهداف نتانياهو بعقوبات أميركية صارمة وموجعة. ولست مطمئناً من قيمة قرار تلك المحكمة على أرض الواقع خاصةً الواقع العربي حيث لا يوجد سوى خمس دول عربية فقط أعضاء في النظام الأساسي للمحكمة، بينما سبع عشرة دولة أخرى خارجه ما يجعلها غير ملزمة بالقرار؛ بما يعني عدم وجود ما يكبح اندفاع كثير منها نحو التطبيع. ولست مطمئناً من ذلك الصمت العربي الأخلاقي المطبق إزاء مأساة غزة والقضية الفلسطينية برغم كل محاولات الاستنطاق التي بذلتها دماء الأبرياء في الأراضي المحتلة طيلة ثلاثة أرباع القرن. ولا مطمئن بالمرة من تلك المباركة العربية الظاهرة والضمنية حيال ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم إلى أوطان عربية بديلة تنفيذاً للتعليمات الإسرائيلية والأميركية. ولا مطمئن أبداً ودعوى الصهيونية الدينية التوسعية تؤكد مطامعها معلنةً أن ضياع فلسطين من يد العرب لن يكون الأخير. فالمطالب الإسرائيلية المغطاة بالكامل أميركياً تتكلم عن خرائط جديدة تختفي منها بلدان عربية أخرى، وعن تعويضات مالية باهظة تفقر أكثر بلدان العرب ثراءً خزائنها. ولست مطمئناً باليقين إلى قدرة الحكومات العربية ليس على الصمود في وجه تلك الضغوط بعد أن أضعفت نفسها بشدة أمام إسرائيل وأميركا والعالم كله، وبعد أن حرمت نفسها من قاعدتها الشعبية الداخلية لأنها بكل أسف ما زالت تخشى شعوبها بأكثر مما تخشى إسرائيل وأميركا. ولست مطمئناً حتى من المجتمعات العربية التي برغم أحلامها المشروعة تعيش حالة تفتت وتفكك غارقةً في طائفيات ومذهبيات وتفرعات لا تنتهي.
وسوف أكتفي بهذا القدر. سأتوقف لأني خائف ليس من المصائب التي ستقع لأن أكثرنا قد اعتاد عليها كما أني أؤمن شأني شأن غيري بأنه لن يغني حذر من قدر. وإنما أنا خائف من نفسي على نفسي، وخائف منها عليكم. أخاف على نفسي لأن طبيب القلب الذي يدقق دورياً في حالتي أوصاني بعدم الانفعال وقال لي أن الانشغال بالهم هم فلا تهتم. قالها لي وهو يعلم أن كلماته تحصيل حاصل لأن الوقت لم يعد يسمح لأحد بتجاهل الهم بل يفرض عليه الانغماس فيه. ثم إني أخاف عليكم مني أكثر لأني لا أحب أن أنقل إليكم حالة الخوف التي تتملكني. لكن ما العمل؟ فالكذب على الناس سهل لكنه خيانة. أما الصدق في رسم الصورة لهم وإن كان مؤلماً فيبقى رسالة.