أيام تمضي وسنوات، وشعبي – شعب لبنان صامت – ويتابع الحياة دون اعتراض، وقبل أن أحملكم إلى واقعنا اللبناني، أعود معكم إلى صورة ما زالت في ذاكرتي، تقطع أنفاسي كلما أتذكرها، كنت ما أزال طفلة، عندما حملت والدتي القلم، ونقشت على ظهري اسمي، وعنواني ودونت بالقلم العريض على ذراعي رقم هاتف منزلي، وعندما حاولت معرفة السبب، التزمت والدتي الصمت، وأوصتني أن أعلمها عندما تبهت الحروف لتعاود الكتابة مجددَا.

وكبرت، وأنا أشعر بالقلق لو غاب رقم عن يدي، أو أُزيل حرف عن ظهري، فنحن في وطن نموت ونحن على طاولات الدراسة، نُقصف ونحن نتأرجح في الحدائق، نصاب ونحن نتناول الطعام، فقط لأننا نحمل الهوية اللبنانية.

وكبرت في وطني، كان كل شيء له وجهان، لم أحسن أن أكون طفلة عادية، فالطفل اللبناني له حق في الحياة وفقًا للون المنطقة التي ينشأ فيها، في ساحاتنا المدرسية كانت أنفاسنا لبنانية فقط لا أنفاس أخرى، فالطفولة لا تعرف الألوان، وفي أفراحنا كانت الدبكات ملونة بألوان علمنا اللبناني، ففي الأفراح تختلط السعادة بكل الألوان، وفي الصباحات كانت فيروز توحد الأنفاس، لتجدنا كلنا في حقولنا نلاحق فراشات أحلامنا دون خوف من اختراق حدود حقول أخرى، لا حق لنا باجتيازها فالسماء لنا، والأرض لنا، ولبنان لنا.

ربما كنت من أكثرهن حظًا، وعاصرت زمنًا اختلطت فيه أصوات الكنائس بتكبيرات الجوامع، واختلطت فيه الألوان، ولكن كالعادة لنا في كل زمن قصة، لأصحو يوم قصصت جدائل شعري، معلنة قدوم فصل الربيع في حياتي، على صوت التفرقة وألوان الهوية المتعددة، ولأعلم أننا نعيش في وطن واحد عدة أوطان، وصمتنا لسنوات، ولكننا بقينا - كما نحن على طاولات الدراسة- لم تفرقنا الألوان....

على مشارف عام 2025، ووطني تُدمر منازله، وتُحرق حقوله، وتُحطم أحلام شبابه وفتياته، وتُنتهك حرمة أمواته، نعتذر منكم أيها الحالمون.. بيقولوا مات وما بيموت... ومازلنا في كل مكان – نحن اللبنانيين – نعيش لبنان، سرقتم طفولتنا ولكننا كبرنا، سرقتم أحلامنا ولكننا أنرنا سماءنا أنوارا وآمالا، سرقتم أموالنا وما خضعنا، وآن الأوان لنخبركم... أننا شعب لا يموت.

وقبل أن أطلق شمعتي في الفضاء، وأن أحلم بعودة الأمان والسلام للبنان من جديد، أخبركم أن غدًا ستشرق الشمس، وستصدح فيروز مجددا وتقول:

قصتنا من أول الزمان

بيتجرح لبنان، بيتهدم لبنان

بيقولوا مات وما بيموت

وبيرجع من حجار ويعلي بيوت

وبتتزين صور وصيدا وبيروت

وبتنور ساحات طرابلس والجبل وكل البيوت