تُفاخر المجتمعات المتحضرة عبر العصور بمثقفيها ومفكريها، وحتى في جاهليتها كان بإمكانها أن ترى في شعرائها وخطبائها ذلك الأمل الإنساني الذي يومئ إلى رُقيها لذا كانت تضاهي بهم حضارات الأمم الأخرى...
ذلك لأن الثقافة ذات صلة وثيقة في أسلوب معايشة البشر للبشر ومعايشة الإنسانية جمعاء لأرضها بل وتعاطيهم مع الحياة بشكلٍ لائق، تُرى هل عجزنا نحن عن منح المثقفين تقديرهم الحقيقي ؟ ثمّ ماهو التقدير الحقيقي للمثقف اليوم؟
وبالمقابل هل أدى مثقفو اليوم دورهم الذي وهبتهم إياه الملكة والموهبة والخبرة المهنية والأكاديمية وسنوات العطاء وأضف إلى كلّ ذلك (ألفُرص)؟
ولو تساءلنا على الجانب الآخر، هل بمقدور المثقف اليوم ممارسة دوره الحيوي بديمومة لا تنقطع؟ وهل بمقدوره أن يبدع ويتميز وينغمس في عطاءاته ويُثري عصره وزمانه كما ينبغي لأي موصوف بالثقافة أن يفعل؟ ثم ما الذي يجعل عطاء المثقف محدود الأمد وضئيلا، بل خافت الضوء إلى حد الانطفاء رغم إبداعه الملحوظ؟
ألا يشي الأمر أن هنالك عوائق تحول دون ممارسة دوره بسهولة ويسر عبر المؤسسات الثقافية، ولنقل تحديداً عبر بعض الأفراد فيها ممن لا يكترثون لا للثقافة ولا للإبداع ولا لأي خير يعم وينتشر، أو أولئك الذين يتخذون من أي مِنصة ثقافية تُشيَّد وسيلة للقدح والذم وتثبيط الهمم أو ممن يجعلون من وظيفتهم باباً يُحكِمون إغلاقه بعناية في وجه قاصديه دون أيّ حس بالمسؤولية؟
يبدو أنّ لدينا عوائق من نوع آخر تُنفر وتُقصي وتُبعد مُتخذةً أشكالاً أخرى وهي ليست بالطبع عوائق مادية إنّما عوائق مهداة من البشر للبشر، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حب الظهور وتكرار فرضه وحب البقاء حتى آخر قطرة من قطرات الخلود يكشف تلك المساحات القاحلة الخاوية، هل تبدو كذلك لأن لا يوجد فيها أحد؟
وهناك على الجانب الآخر يعمل المتثاقفون بجدارة وكفاءة متناهية ظناً منهم أنّ الثقافة تأتي عبر الإيهام، إيهام المتلقي بكثرة وتكثيف الظهور في وسائل الإعلام، لقاء في الإذاعة وآخر في التلفاز، ندوة من هنا ومحاضرة تُلقى هناك وتواجد دائم في كلّ محفل ثقافي وهكذا يُنجز بإبداع المحترف برواز الثقافة المتقن الذي سيُزين صورهم!
ثم أين النتاج الثقافي الفعلي الملموس على أرض الواقع؟
ذلك حتى لا تكون الثقافة ميداناً لكلّ شيء عدا الثقافة بمعناها المتعارف عليه.
والآن دعنا نبحث في مرادفات بعض الكلمات البسيطة، عبر بعض الأسئلة المشروعة.
هل الثقافة منصب؟ وهل الكتابة وظيفة؟ وهل العطاء المبدع ضرورة؟ وهل نحن بحاجة ماسة للزاد الثقافي المحلي؟ ومتى تكون الثقافات الأخرى سد شاغر وليست بمفهوم التبادل الثقافي؟ وما أثر كل ذلك على هويتنا الثقافية؟
ثُمّ إنّ أجمل تكريم وتقدير للمثقف اليوم بات ثمنه زهيداً جداً، إذ يكفيه تيسير الأمور له لممارسة إبداعه وعطائه الفني، وأن لا ندفعه للإحباط والركون والانضمام لجوقة المتذمرين في الحياة لأجل أنّه أراد تحقيق هدف نبيل وسامٍ في الحياة...
{ حقيقة..
إن درب الثقافة ككل دروب الحياة حين نخطو فيها ـ رغم امتلاكك لكافة أدواتك ـ سيخبرك يوماً ما ذلك الدرب أنّ كلّ ما أنت عليه ليس بكافٍ مطلقاً، إذ لم يعدْ يكفي البتة أن تكون مبدعاً ومعطاءً..!
{ كلمــة أخيـــرة:
يقول الكاتب الفرنسي فرانسوا دو لاروشفكو: «عندما تتدنى جدارتنا يتدنى ذوقنا أيضاً».