مصطَلَحان أصبحا حديث المدينة والناس منذ «الكورونا»، ثم أثناء حرب أوكرانيا، وإبان الربيع العربي، ليتعزّز حضورهما أكثر مع حرب الكيان الصهيوني على غزة ولبنان.

نظرية المؤامرة، التي أصبحت سيدة الموقف والتحليلات السياسية مؤخراً، تَتَحدّث عن أهداف واسعة تتعلّق بإحكام السيطرة على بلد أو منطقة ما، تقودها منظمات شريرة، تنفّذ خططاً لتخريب الدول والمؤسسات القائمة فيها، أما المصطلح الثاني، فهو مصطلح الدولة العميقة، الجميع يتحدّث اليوم، وفي كل مجتمع، عن الدولة العميقة التي تُدير المشهد، سياسياً كان أم عسكرياً أم اقتصادياً، من خلف أسوار عالية، وبشكل خفي وسري.

يُقال، والعهدة هنا على «غوغل» ومحركات البحث، إن جذور الدولة العميقة لها نماذج في الواقع العملي منذ القرن الثامن عشر، فيما يعتقِد البعض أن المصطَلَح هو ترجمة حرفية لعبارة «ديرين دولت» التركية، وأن هاتين الكلمتين ارتبطتا بمنظومة شبكة سرّية من الضباط وموظفي الخدمة المدنية، التي كان قد شكّلها مصطفى كمال أتاتورك لحماية النظام الجمهوري العلماني في بلاده.

الدولة العميقة إذاً، ووفقاً لمسارها التاريخي ونشأتها، تصِف أي جهاز أو منظومة خفيّة وغير مُنتَخَبَة تتحكّم في أجهزة الدولة الرسمية والعلنية، سواء كانت أمنية أو سياسية أو عسكرية، كما يمكن لمثل هذا التعريف أن ينطبق كذلك على الأحزاب السياسية والدينية، التي تتحكّم في القرار، وتتصرّف وكما لو كانت دولة داخل دولة.

الكاتب الأميركي مايك لوفغرين عرّف الدولة العميقة بكونها «اندماج هجين بين مسؤولين حكوميين وممثّلين رفيعي المستوى للمموّلين والصناعيين، الذين يُديرون الولايات المتحدة بشكل فعّال، من دون سؤال الناخبين عنها». (انتهى)

بل إن ترامب نفسه قد سَبَقَ أن أشار إلى الدولة العميقة، حين تحدّث لحشد من أنصاره، قائلاً: إما أن تُدمّر الدولة العميقة أميركا، أو تدَمّر أميركا الدولة العميقة.

هنالك قطعاً أسباب مُركّبة حول نشأة الدولة العميقة، لعل أبرزها التداخل في شبكة العلاقات والمصالح التجارية والسياسية المُتضاربة دائماً، والتي قد تضطر إلى اختراق القوانين المكتوبة أو تجييرها لمصلحتها، وذلك حين تصطدم ببيروقراطية الدولة أو بأي معوّق آخر، بل قد تلجأ إلى العنف في أحيان كثيرة، حينما تُغلَق الأبواب، وكما حدَثَ في اغتيالات شهيرة كاغتيال كنيدي، والحريري وغيرهما. قد يحمل الحديث عن الدولة العميقة احياناً مبالغات مُفرطة في التحليل والتأويل، لكن ذلك حتماً لا يعني نفي وجودها، حتى إن بعض الكُتّاب وصفها باللهو الخفي، أو بكونها مجرد محاولة لإلقاء اللوم في أي قضية على أوهام لا صحة لها، بدلاً من البحث والتقصي، وهو ما يُشكّل خللاً معرفياً لا يفي بأي غرض عادة، يتحالف المؤمنون بنظرية المؤامرة مع أولئك الذين يخشون بطش الدولة العميقة، فكلا المُصطَلَحين لا يمكن إثباتهما علمياً، أي بأسلوب البحث والدراسة ومن ثم المقارنة، لكنها مع ذلك تبقى نظريات رائدة ورائجة، غالباً ما تدفع العامّة والرأي العام إلى اليأس وعدم الجدوى.

تبقى الديمقراطية والشفافية أبرز الأدوات لمواجهة أي اختراق للشرعية أو للقانون، ويبقى العمل السياسي المؤسّسي الضمان الأول في مواجهة الدولة العميقة، وكل نظريات المؤامرة.