الوطن – وكالات
صُدمت الأوساط التشكيلية الفلسطينية، بخبر رحيل الفنان الفلسطيني سمير سلامة في باريس صباح الخميس عن عمر ناهز الـ «74» عاماً، بعد حربٍ باسلةٍ خاضها ضد مرض السرطان، الذي حاول التنصل منه طوال سبع سنوات ماضية؛ حيث قال في معرضه الأخير الذي أقيم في يونيو الماضي برام الله، بصوت أنهكه المرض: «ردت لي الحياة حين وجدت نفسي في فلسطين.. أيها الموت هزمتك الفنون كلها.. لم أخضع لمرض السرطان ولم أعطه أي اهتمام، ورفضته باستمرار، لكن القدر أقوى منّا جميعاً، وبالنسبة لي فإن وجودي سيتواصل عبر أعمالي، وهذا ما يهمني».
وشاءت الأقدار أن تختتم قبل رحيله بيوم واحد، أربعة معارض استعادية لتجربته، أُقيمت بالتزامن في صالات مختلفة في فلسطين؛ في «غاليري زاوية» و«غاليري وان» في رام الله، و«حوش الفن الفلسطيني» في القدس، و«باب الدير» في بيت لحم، فقد ضمّت تلك المعارض قرابة «150» لوحة عبّرت عن الطبيعة والريف والأحياء الشعبية والقرى السورية ومجمل التجربة الفلسطينية، بلغة بصرية تجريدية وألوان شديدة التنوّع والثراء، كما اشتملت أيضاً على أعمال تعود أقدمها إلى عام 1961، حيث لوحةٌ بالرصاص بعنوان «درعا» ترصد مشهداً من شوارعها في ذلك الوقت، وصولاً إلى عام 2018، هو الذي رسم أربعين عملاً رغم المرض، بعضها يصل في الحجم إلى متر ونصف المتر.
صرخة الميلاد
ولد الفنان سمير سلامة في مدينة صفد عام 1944، واضطر إثر النكبة إلى الانتقال برفقة أسرته نحو بلدة مجد الكروم في الجليل؛ حيث كانت تسكن عمته، ومنها إلى بنت جبيل. بحث والده في البلدة اللبنانية عن معارفه الذين كان يعمل معهم في نقش الحجر. مكث معهم فترة قصيرة لكنه تابع مشواره إلى بيروت ثم دمشق التي غادرها جنوباً نحو درعا. وبعد أشهر على الترحيل القسري أقام سمير في دير للطائفة المسيحية في درعا قبل أن تستأجر العائلة بيتاً في جواره.
بداية الرسم
بدأ الرسم مبكراً وأخذ يرسم وجوه زملائه في المدرسة حتى انتشر نبأ موهبته وقدرته على تطويع خطوط قلم الرصاص.
أغرم سلامه في الرسم الذي خطفه أحياناً من الانتباه لدروسه ولم يفلت من الضرب عندما كان يضبط وهو يخربش على دفاتره إلا أن ذلك شكل بالنسبة له تحدياً ودفعه إلى الإصرار على مواصلة الرسم؛ فباتت خطوط الطالب الصغير وسيلة إيضاحية لبعض الدروس على اللوح المدرسي فيما نالت لوحاته جوائز المسابقات المدرسية.
مدرسة الفن
وقد نال التشجيع في ما بعد من مدرس الفن حتى بدأ ينسخ اللوحات ويحضر الألوان ويمزج بودرة مواد الطراشة ليستخدمها في الرسم.
وقد كان للأستاذ والفنان السوري أدهم إسماعيل فضل في وضع سلامة على السكة الصحيحة بمجال فنون الرسم، كما أسهم في اختياره كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. ويستذكر سمير في لقاءاته الصحفية كيف كان يرافق مصطفى فتحي الذي شاركه ولعه بالرسم في رحلات الصيف المدرسية والتجول في القرى السورية، وهي التجربة التي تركت بصمتها على لوحاته الفنية ولمعت في أول معرض أقيم بالعام 1963 في المركز الثقافي في درعا تلاه المعرض الثاني بعام 1966 في ختام الدراسة الثانوية تمهيداً لمرحلة الدراسة الأكاديمية الجامعية في حقل الفنون التشكيلية.
وانتزع المعرضان بجدارة تأشيرة دخوله لكلية الفنون الجميلة التي التحق بها عام 1967.
ترك المحاضرون محمود حماد، فاتح المدرس، نذير نبعة، إلياس زيات ونصير شورى بصماتهم على توجهاته الفنية، حتى تمكن من المشاركة في أول معرض للخريف في دمشق.
الدراسة الجامعية
أنهى دراسته الجامعية عام 1972 وانتقل إلى بيروت؛ حيث التحق بدائرة الإعلام الموحد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأسهم طوال ثلاث سنوات في صياغة البوستر السياسي استجابة لمتطلبات المرحلة، كما شارك في حينه في معارض جماعية ببيروت وكذلك في معارض عالمية عديدة باسم فلسطين. إلى ذلك فقد أسس قسم الفنون التشكيلية في دائرة الإعلام الموحد، وأسهم في نشاطات الإطار النقابي للفنانين التشكيليين الفلسطينيين برئاسة إسماعيل شموط الذي أصبح الأمين العام الأول لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب.
الدراسات العليا
في ربيع العام 1975 وصل سلامة إلى باريس لمتابعة دراسته العليا في كلية الفنون الجميلة «بوزار» المقابلة لمتحف «اللوفر». حين تسلم بطاقة إقامته اكتشف على أوراقها أن مكان ولادته صفد بات مدينة في إسرائيل، فاعترض على ذلك حتى تسلم بطاقة جديدة سقطت منها إسرائيل لكنها عرفت جنسيته كـ «غير محدد». إلا أن سلامة لم يتنازل وخاض بعد ذلك بسنوات حرباً لاعتماد صفد- فلسطين كمكان ولادته في جواز سفره الفرنسي وكان له ذلك في سابقة مهمة نجح في تحقيقها.
الحياة الوظيفية
بعد أن أنهى تعليمه واستقر في فرنسا، تسلم وظيفة لمدة ثلاث سنوات في مجال التصميم والغرافيك في قسم المطبوعات العربية بمقر اليونسكو، ثم عمل مدرساً لمدة ثلاث سنوات في برنامج الرسم المفتوح بجامعة «جوسيو» الباريسية، كما ساهم في تشكيل مجموعة «فنانون من أجل فلسطين».
شارك في عدد من المعارض الفنية أبرزها أصيلة في المغرب والقاهرة وعمان وغيرها من العواصم العربية والأجنبية وأيضاً في المعارض الداخلية بالمدن الفرنسية.

ممارسة السياسة
تعاون مع عز الدين قلق سفير فلسطين في فرنسا، وأنتج بتشجيعه مجموعة جيدة من الملصقات السياسية (تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الملصقات التي أنجزها كانت من ضمن الستين ملصقاً فلسطينياً التي عرضت في عام 2015 على جدران المركز الثقافي «JOUR ET NUIT» وسط العاصمة الفرنسية باريس بتنظيم من المنتدى الفلسطيني للثقافة والإعلام في باريس، ذلك إلى جانب ملصقات سليمان منصور وفتحي الغبن وناجي العلي وغيرهم من الفنانين الفلسطينيين والعالميين). ويذكر سلامة أنه قام بالتعاون مع السفير قلق ببلورة فكرة إقامة متحف للفنون ومعرض دولي من أجل فلسطين والذي أقيم في بيروت بإشراف التشكيلية منى السعودي، ثم انتقل إلى طوكيو في اليابان قبل أن يعود إلى بيروت وتتعرض لوحاته للتدمير بفعل قصف الطيران الحربي أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو 1982.
مسقط رأسه
وصل سمير سلامة إلى فلسطين في مطلع عام 1996 وعاد إلى مسقط رأسه صفد للمرة الأولى لكنه فشل في العثور على بيته واستعادة تاريخ طفولته على وقع المكان وحكايات والده ووالدته. في رام الله تسلم قراراً رئاسياً بتعيينه مستشاراً في وزارة الثقافة، فعمل لمدة عامين في التصميمات الفنية لمستشفى خانيونس التابع لجمعية الهلال الأحمر قبل أن يعود إلى رام الله للإشراف على دائرة الفنون وصالة الحلاج وبعض المعارض، تم انتدابه في ما بعد للمتابعة الفنية في مقر جمعية الهلال الأحمر في البيرة الذي كان في طور البناء، وظل في وظيفته برتبة مدير عام حتى التقاعد عام 2004. في عام 2005، بعد أربعة عقود من الممارسة التشكيلية وعشرات المعارض في المنفى أقام سلامة معرضه الأول في فلسطين.
نقطة تحول
وقد أخذت لوحات الفنان سمير سلامة في البدايات منحى واقعياً سرعان ما تحول عنه إلى التجريدي، وقد ألهمته مدينة معلولا في سوريا إلى ذلك، كما يعيد ويذكر دائماً؛ حيث باتت لوحة حديقة معلولا التي أنجزها في التسعينيات والتي تتأرجح ما بين التصويرية وما بين التجريد نقطة تحول في مسيرته الفنية. أما تجاربه الباريسية فقد حثته على الاستمرار بالمنحى التجريدي وألقت على ذائقته اتساعات لرؤية أكبر لمعاني الفن والتشكيل.
الشكل الهندسي
ويظهر الشكل الهندسي في أعماله كموتيف متكرر، أما الرؤية التلوينية في لوحاته فلا تأتي ضمن جماليات بصرية سطحية إنّما هي أقرب ما تكون ملتحمة مع شكل المساحة. وكما يقول الناقد والفنان التشكيلي الفلسطيني عصمت الأسعد في هذا السياق: «مثل هذه التداعيات اللونية لا تنبئ لنا إلاّ عن فعل تشكيلي مصاغ بجمالية خاصة وإن بدا وفق تقاليد متوارثة- شكل اللوحة المألوف- إلاّ أنّ هذا لا يقف عائقاً أمام جموحات إبداعية حداثوية، أو حتى بعد حداثوية، ليحقق الفنان بذلك كثيراً من تعقيدات الشكل وببساطة يحسد عليها».
المقاومة والأرض
ويعتبر سلامة من الفنانين الفلسطينيين الذين ابتعدوا عن الموضوعات التي تم تناولها لفترات طويلة، مثل المقاومة والأرض والانتفاضة، وتناولوا عوضاً عن ذلك الموضوع الجمالي ليسهموا في تشكيل خطاب عالمي أكثر منه محلياً. وبكلمات الأسعد: «الفنان سمير سلامة وبكل سهولة يندرج تحت قائمة الفنانين الذين لم يستسلموا لسحر الرمز المبتذل، وأخص بذلك في ما يتعلق بتشكيلات باتت معهودة وإن أشارت لدلالات نحو حب الوطن والانتماء. فالفنان راح مع الرمز بأبعد من ذلك بكثير عندما رأيناه يتعامل مع مثل هذه الرموز وفق تسجيلات ذات فرادة ولكنها متشابكة وأذابتها بمصطلحات أكثر تجريدية ومبتعدة إشارياً عن كونها رؤية لوقائع بصرية بحتة وإنما دلالة لكونها استلزامات- فكرية- ممتزجة بصرياً مخلفة وراءها ما نشهده من صيغ لتناولات الفنان داخل العمل الفني وضمن محتواه».
التجربة التشكيلية
هذا إذن ما يعمق أبعاد هذه التجربة التشكيلية ذات الفرادة على مستوى أداءات التشكيل المحلي وضمن ما يعرفه الفنان سمير سلامه مسبقاً عن عدم وقوعه في هاويات الرمز الساذج والذي سبقه إليه الكثيرون. ولامتلاكه مثل هذه الخبرات قد عززت من ابتعاد لوحاته عن كونها مجرد سياق معرفي تاريخي أو أنها وقائع ذات صفات تسجيليه بل هي أكثر من كونها سمات لرصد الواقع اليومي، لذلك فإنَّ صياغات اللوحة في هذه الحالة جاءت مختزلة ومعمقة في آن معاً وبأكثر ما لديها. بذلك أصبحت ذات علاقة أوسع مع الأفق التشكيلي بمفهومه المطروح الآن- عالمياً وعربياً- وليس كما هو متاجر به. على ذلك فقرابة اللوحة من كونها رؤية مستقلة فهذه الصفة بحد ذاتها تجعلها منفتحة على احتمالات الاستدامة أكثر وذات حضور عفوي أقوى من تلك التداعيات المقترحة لفعل تشكيلي محلي صارخ وبألوان نعرفها جميعاً أو بترميزات باتت صدئة. لهذا فمقترحات التشكيل لدى الفنان أكبر من أن تصاغ مقولبة وفق تعادلات مصاغة ومحوطة والإلقاء بها كيان المتذوق، ففي هذه تبدأ صياغات أكثر خطورة على واقع التشكيل المحلي وله أيضاً إرادة لرفع مستويات التذوق ومستويات التعبير أيضاً، كل ذلك لمنح التجربة التشكيلية المحلية مساحة تزداد اتساعاً كلما كَبُرت.