سلاسل التوريد هي العمود الفقري للاقتصاد، وهي عبارة عن شبكات معقدة تتضمن عمليات متعددة، منها شراء المواد الخام، والتصنيع، والنقل، والتخزين، والتوزيع، والخدمات اللوجستية ورغبات المستهلكين في مواعيد تسليم أسرع، وكل هذه المراحل في حاجة إلى ظروف موائمة وملائمة لطبيعة عملها كي تتم بسلاسة دون معوقات، غير أنها في الوقت الراهن تواجه تحديات كثيرة وكبيرة، منها أزمات قائمة على المناخكالظواهر الجوية القاسية، ومنها عدم الالتزام بالممارسات البيئية الذي نتج عنه التلوث وحرائق الغابات، ومخاطر التهديدات السيبرانية، وانعدام الشفافية، ونقص المواد الخام، وتقلبات الأسواق وغير ذلك الكثير، ثم أضيف إلى كل هذه التحديات اندلاع الحروب الجيوسياسية التي لا يجهلها أحد، والتي تعد بحق سببا رئيسا من أسباب اضطراب سلاسل التوريد، ولا نقول عنها القشة التي قصمت ظهر البعير، وإنما الصخرة التي قصمت ظهر البعير، بعد جائحة كورونا.
دعونا نتفق على أنه لا تلوح بوادر سلام في الأفق، ولا تبدو في المنظور القريب نهاية للحروب الجيوسياسية الدائرة الآن، لأسباب منها أنها أي الحروب في العصر الحالي لم تعد كما كانت في السابق، لم تعد الأطراف الأقوى فيها قادرة على حسم المعارك، والدليل ما نراه ماثلا أمام أعيننا، فروسيا لم تقدر حتى الآن على حسم معركتها مع أوكرانيا بعد مرور حوالي 3 سنوات على بدايتها ولن تقدر، والكيان الصهيوني لم يقدر على حسم معركته مع حماس بعد مرور أكثر من سنة ولن يقدر، كما لم يقدر على حسم معركته مع حزب الله ولن يقدر، وكذلك الأمر في السودان لم يقدر أي من الطرفين على حسم القتال لصالحه.
وبما أن سلاسل التوريد كما ذكرنا هي أساس الاقتصاد العالمي وعامل استقراره، لم يعد مقبولا أن تبقى تحت وطأة هذه الضغوط الهائلة، وأن يظل تعافيها مرهونا بإرادة المتحاربين، خصوصا وأن بعض الدراسات أفادت بأن 80 % من مديري سلاسل التوريد يشعرون بالقلق تجاه التغيرات المفاجئة التي حدثت وتحدث بين الحين والآخر، لذا كان عليهم وضع استراتيجيات جديدة تستغل فرصة التقدم التكنولوجي الهائل كعامل حاسم في تخفيف النسبة الأكبر من الآثار السلبية للحروب الجيوسياسية التي لم تستثن دولة على هذا الكوكب، وتحقيق الاستدامة والنمو الاقتصادي العالمي.
وتستلزم هذه الاستراتيجيات تعزيز المرونة والجدية في مرحلة التحولات الكبرى وإعطاء المزيد من الاهتمام للابتكار والإبداع ليكون في طليعة التحولات، وليعيد رسم خريطة مستقبلها، ليس لاستمرارية دوران عجلة الإنتاج بكفاءة فحسب، ولكن أيضا لتحقيق المزيد من الازدهار والتفوق على المنافسين بأعلى جودة وأقل سعر، وتزويد العملاء بالمنتجات المناسبة في المكان والزمان المناسبين.
بدأت التحولات من الأنماط التقليدية إلى التقنيات الرقمية الحديثة في الإدارة، وعمليات الإنتاج، والنقل والتخزين، والتوزيع، والإعلان والتسويق والخدمات اللوجستية تؤتي أكلها سريعا، فقد أثبتت هذه التقنيات الناشئة فعالية كبيرة في أتمتة الإدارة، وزيادة الإنتاج وجودته، كما حققت خوارزميات الذكاء الاصطناعي نجاحا كاملا في تحليل الكميات الهائلة من البيانات لتحسين إدارة المخزون، والتنبؤ بالطلب، وتحديد الاضطرابات المحتملة قبل حدوثها، واتاحت أجهزة إنترنت الأشياء تتبع البضائع في الوقت المحدد عبر سلسلة التوريد، مما يوفر الرؤية ويساعد على تحسين الكفاءة وتقليل النفايات، أما البلوك تشين ففقد وفَّر طريقة آمنة وشفافة لتتبع المعاملات والتحقق من صحة المنتجات، فلا يقع التزوير أو الغش أو استبدال منتج بآخر، وحققت الروبوتات كفاءة عالية في تقليل الأخطاء البشرية وزيادة الإنتاجية منشآت التصنيع والمستودعات، وكانت النتيجة أن أفادت بعض المؤسسات التي قطعت شوطا كبيرا في التحولات بأن الإنفاق على التحديث يرفع نسبة الربحية إلى 50 %.
وبدوره أدى الابتكار المستدام دورا رئيسا في نجاح التحولات، تضمن ابتكار منتجات جديدة، وإضافة مزايا وقيمة جديدة إلى ما هو موجود، لتعزيز الرفاهية وتحسين مستوى المعيشة، وتسهيل أداء المهام، والمساعدة في القضاء على البطالة والفقر والجوع، وتخفيف أثر الحروب، وشملت الابتكارات أيضا مجال كفاءة الطاقة، والحد من النفايات، وإيجاد المصادر المستدامة، وشمل الابتكار التكنولوجيا الخضراء كتقنيات مصادر الطاقة المتجددة من الشمس والرياح والطاقة الحيوية، والمركبات الكهربائية، وأنظمة إعادة التدوير لتعزيز الاقتصاد الدائري، وقد استطاعت الفرق المتميزة في العلاقات العامة والتسويق ابتكار أساليب ترويجية وتسويقية لإقناع المستهلكين بأهمية المنتجات الجديدة في حياتهم اليومية.
في كل مراحل التحولات توجد بعض التحديات، منها صعوبة دمج التقنيات الجديدة مع الأنظمة التقليدية، ومنها فجوة المهارات، حيث تبرز الحاجة إلى موظفين ماهرين يمكنهم إدارة البيانات وتحليلها بفعالية، ثم مخاطر الهجمات الإلكترونية مع زيادة الاعتماد على الرقمنة، مما يجعل الأمن السيبراني أولوية قصوى، ومما لاشك فيه أن التغلب على هذه التحديات أمر ميسور بالنسبة لمديري مراحل التحولات.
أختم بالقول إنه توجد مؤشرات على تخفيف حدة التحديات منها عودة ترامب إلى سدة الحكم في أميركا، وهو الذي طالما انتقد حجم المساعدات التي تقدمها إدارة بايدن لأوكرانيا، وبلغت قبل عام من الآن 70 مليار دولار، فهو سوف يسعى للسلام بين روسيا وأوكرانيا ليس لكونه رجل سلام، ولا حبا في السلام، ولكن حبا في الأموال، إذ يعد بتخفيض المساعدات لأوكرانيا.
أيضا قمة العشرين التي عقدت في ريودي جانيرو يومي 18 و19 من نوفمبر الحالي، هذا التجمع الاقتصادي الضخم رفع مجموعة شعارات لا يمكن لها أن تتحقق إلا بتعافي سلاسل التوريد، من هذه الشعارات بناء كوكب عادل ومستدام، محاربة الفقر والجوع وانعدام المساواة، وتحول الطاقة، وذلك بمشاركة دولة قطر ممثلة في حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، حفظه الله ورعاه، انسجاما مع سياساتها الاقتصادية الرامية إلى تسريع النمو الاقتصادي، وحرصها على مشاركة دول العالم في التغلب على الأزمات المتعلقة بالمناخ وغيرها المسببة للجوع والفقر والأمراض والبطالة.
والمعروف أن مجموعة العشرين تمثل ثلثي تعداد سكان العالم ويبلغ الناتج المحلي لها مجتمعة 84.56 تريليون دولار أي 85 % من الناتج الإجمالي العالمي، و80 % من حجم المبادلات التجارية العالمية، أي 80 % من نشاط سلاسل التوريد فهي العمود الفقري للمبادلات التجارية، ويستطيع تجمع بهذا الحجم فرض إرادته على أطراف الحروب الجيوسياسية إذا أخلصوا النوايا وفضلوا خيار السلم والاقتصاد.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية