في عصرنا الحالي، حيث نظل متصلين بالتكنولوجيا الرقمية من خلال هواتفنا الذكية وأجهزتنا اللوحية وحتى ساعاتنا، نجد أنفسنا جزءاً من تجربة ضخمة لم نكن لنختار المشاركة فيها بوعي كامل.

أغلب شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي، تتنافس للسيطرة على انتباهنا، مستغلة بدهاء فهمها للأزرار النفسية التي يجب الضغط عليها لضمان عودتنا المتكررة. الآن، أصبح من المألوف أن يمتلك الأطفال في الغرب هواتف ذكية بحلول سن العاشرة، مما يوفر لهم جهاز إلهاء دائم في جيوبهم.

وكلما زاد تكيفنا مع ما أسميه «اقتصاد الاهتمام»، يتنامى خوفنا من الأذى الذي قد ينجم عنه. في وادي السيليكون، حيث تنشأ العديد من هذه الشركات التكنولوجية العملاقة، يتم الإبلاغ عن أن عدداً متزايداً من الآباء يقللون من وقت استخدام أطفالهم للشاشات، ويضعون بنوداً لعدم استخدام الشاشة في عقود المربيات. هذا يثير التساؤل: هل يعرف هؤلاء الآباء شيئاً لا نعرفه نحن؟

إذا كان صحيحاً أن الانحراف المستمر بواسطة التقنيات الرقمية يؤثر سلباً على وظائفنا المعرفية، مما يجعلنا أكثر تشتتاً، وأكثر عرضة لنسيان الأمور، وأكثر قلقاً، فهذا يدل على أننا نواجه تحولًا جذرياً في الإدراك البشري. ولكن، هل نحن بصدد المبالغة في ردة فعلنا، على غرار ما حدث مع اختراعات سابقة مثل المطبعة والراديو؟ الدلائل المتاحة عن تعدد المهام والذاكرة تظهر وجود تأثير سلبي، لكن العلاقة السببية لا تزال غير واضحة. على الرغم من ذلك، يظل العديد من الباحثين وخبراء السلوك البشري متوجسين من الاتجاه الذي تقودنا إليه التكنولوجيا الرقمية المتواصلة. عندما سُئل الخبراء عن تأثير استخدامنا المستمر لهذه التقنيات على صحة دماغنا، يقول ريتشارد ديفيدسون، عالم الأعصاب في جامعة ويسكونسن ومدير مركز العقول الصحية: «نحن جميعاً بيادق في تجربة ضخمة يُتلاعب بها من خلال المحفزات الرقمية دون موافقتنا الصريحة». الشركات التكنولوجية تمتلك أدوات مؤثرة وواسعة الانتشار تؤثر على نفسية المستخدمين وتستغلها، حيث يتم جذب انتباه الناس بواسطة الأجهزة بدلاً من تنظيمه بشكل طوعي. وهذا يدفع البشر إلى أن يكونوا كبحار بلا دفة يجرفهم تيار المحفزات الرقمية بدون توجيه واعٍ لعقولهم. ويؤكد هذا الوضع الحاجة الملحة لتدريب العقول على التأمل والتفكير العميق حتى لا يضطر الناس إلى التحقق من هواتفهم بشكل مستمر. كريستوفر بور، فيلسوف في مجال العلوم المعرفية والذكاء الاصطناعي، يقول: «إن استخدامنا المستمر للتقنيات الرقمية يتيح للأنظمة الذكية أن تتعلم المزيد عن خصائصنا النفسية بدرجات متفاوتة من الدقة. على سبيل المثال، يمكن لمقياس التسارع في هواتفنا الذكية أن يستنتج مستويات التوتر لدينا أثناء العمل، أو يمكن للتحليل الآلي لأنماط الكلام أن يكشف عن حالات الاكتئاب».

ومع ذلك، ما يبعث على القلق هو أن المستخدمين نادراً ما يكونون على دراية تامة بإمكانية استخدام بياناتهم بهذه الطريقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات التي تطور تقنيات الصحة والرفاهية لا تأخذ بعين الاعتبار بما فيه الكفاية المخاطر المحتملة الناجمة عن تدخلاتها، حيث قد تدفع هذه الشركات المستخدمين إلى تغيير أنماط نومهم أو حالتهم المزاجية أو تفضيلاتهم الغذائية، مما قد يتسبب في ضرر غير مقصود.

هل تدمر التكنولوجيا الحالية علاقتنا الاجتماعية بالفعل؟! فيما يتعلق بالأدلة المباشرة التي تظهر تأثير الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي على إعاقة التواصل البشري المباشر، فهي محدودة. لكن، دعونا نتأمل قليلاً في كيفية تواصل الناس مع بعضهم البعض: يتم ذلك عبر المهارات الاجتماعية. والسؤال المهم هو: كيف تُبنى هذه المهارات؟ الطريقة الوحيدة المعروفة هي من خلال التفاعل المباشر وجهاً لوجه مع الآخرين. لذا، عندما تحل وسائل التكنولوجيا محل التفاعلات الاجتماعية المباشرة في مجتمع ما، يُعقل أن هذا البديل سيؤثر على تطوير المهارات الاجتماعية. وهذا ما نلاحظه حالياً. يجب علينا إيجاد طريقة للموازنة بين مخاطر وفوائد التكنولوجيا الرقمية المستمرة.

من المهم أن ندرك أن تأثير الوسائط الرقمية يعتمد جزئياً على كيفية استخدامنا لها. على سبيل المثال، تأثير الوسائط الرقمية على الأطفال الصغار يعتمد على الأنشطة التي يقومون بها وكيفية تنظيم هذه الأنشطة من قبل البالغين الموجودين أو غير الموجودين في الغرفة. قد يكون للدردشة المباشرة مع جد الطفل تأثير مختلف عن مشاهدة برنامج تلفزيوني تعليمي، وقد يكون للعب لعبة فيديو تأثير مختلف عن استخدام تطبيق للرسم. الأطفال يستفيدون أكثر من الوسائط الرقمية عندما تكون المحتويات جذابة وتعليمية ومرتبطة بحياتهم اليومية؛ وعندما يستخدمونها بمشاركة الآخرين، مثل مساعدة الآباء لهم على فهم وربط ما يشاهدونه على الشاشة بتجاربهم الواقعية. كما أن التوازن بين الأنشطة الرقمية والأنشطة الواقعية كاللعب في الخارج وقراءة الكتب مهم للغاية.

التأثير المباشر للتكنولوجيا الرقمية على التنظيم العاطفي والتوتر نتيجة التعرض المفرط للمعلومات، ودورات المكافأة السريعة، والمشاركة في مهام متعددة هو بلا شك مصدر قلق. لكن التكنولوجيا تقدم أيضاً فرصاً رائعة لتعزيز المعرفة وإثراء الحياة اليومية.

من الشائع أن نسمع عن الذعر الأخلاقي مع كل تقنية جديدة، حيث يدعي البعض أنها تسبب الإدمان وتدمر المجتمع. وفي حين أن هذه المخاوف قد تحمل بعض الحقيقة، غالباً ما تكون هناك أيضاً مبالغات تعكس الذعر الأخلاقي. السؤال المثير للتفكير هو: ما هي المشاكل الحقيقية وكيف يمكننا التعامل معها؟ كيف يمكننا التخفيف من الآثار الضارة وتعزيز الآثار الإيجابية التي نرغب فيها من التكنولوجيا؟

نير إيال، مؤلف كتاب «مدمن مخدرات: كيف تصنع منتجات مُكونِة للعادات»، يقدم مقارنة بين استخدام التكنولوجيا واستخدام الحشيش، حيث يشير إلى أن الكثير من مستخدمي هذا النوع من المخدرات لا يتحولون إلى مدمنين. ومع ذلك، يؤكِّد على وجود نسبة من الأشخاص الذين قد يسيئون استخدام هذه التقنيات نظراً لجاذبيتها وفعاليتها. ويرى إيال أن الحل لا يكمن في معاداة التكنولوجيا بحد ذاتها، بل في التعامل مع الضرر الذي قد تسببه. كما يرى أنه ينبغي على الشركات أن تتحمل مسؤولية البحث عن المستخدمين الذين يظهرون علامات الإفراط في الاستخدام وتقديم المساعدة لهم.

الشركات التكنولوجية، التي تعلم تمامًا مدى تفاعل المستخدمين مع منتجاتها، تملك القدرة على رصد سلوكيات الاستخدام المفرط. لو أرادت هذه الشركات التدخل، يمكنها ببساطة مراجعة بيانات الاستخدام والتواصل مع المستخدمين الذين يقضون أوقاتاً طويلة على منصاتها، مما يشير إلى نمط سلوكي يمكن أن يكون مؤشراً على الإدمان. من خلال سؤال بسيط مثل: «هل يمكننا مساعدتك لتعديل سلوكك؟»، يمكن للشركات أن تساهم بشكل فعال في تقليل الآثار السلبية للتكنولوجيا. التحدي الأكبر الذي يواجه المجتمع التكنولوجي اليوم ليس فقط في تطوير منتجات جذابة وفعالة، بل في كيفية تمكين هذه التقنيات من تحسين حياتنا دون إحداث ضرر. إذ يجب على الشركات أن تعيد التفكير في دورها ليس فقط كمطورين للتكنولوجيا، بل كحراس للصحة النفسية والرفاهية لمستخدميها. هذا التحول في المنظور قد يكون الخطوة الأولى نحو عالم تكون فيه التكنولوجيا أداة للتحسين المستمر وليس مصدر إدمان.