داليا الحديدي
كاتبة مصرية
أذكر عطلة أمضيتها بأحد الفنادق المبنية على الطراز الروماني القديم.
وقد لفت انتباه زوجي انتشار نسخ مكررة من تمثال «فينوس دى ميلو» آلهة الجمال لدى الإغريق، وقد هاله ان التمثال مبتور الكتفين، فتخيل أن النحات كان يرى أن الجمال لا بد أن يكون ناقصاً ولو كان لملكات جمال العالم، لعجز البشر للوصول للكمال.
المعنى جميل، لكن الإغريق تعمدوا نحت التمثال على هذا النحو لتصل رسالة إلى حواء أن ذوات الأجنحة المتكسرة لهم الغلبة في الوجود.
انها وصية مشفرة لحواء للمجاهرة بكونها هضيمة الجناح، فيهدأ شريكها ولا يشعر بخطر من جمالها وقوتها عليه، فيدافع عنها. اما لو وجدها أقرب إلى الكمال، فلربما اعتمد على ساعديها وقد يتقوت من جهد ساعديها، فخلد التمثال لخلود المعنى.
وقادني ذلك للتفكير في مسألة لطالما حيرتني منذ الصغر فقد تساءلت عن حكمة الله في الكوارث التي تودي بحياة الأطفال، رضعهم وخدّجهم، تللكم المآسي التي طالما تركت بصماتها على الأحياء فأردت البعض منهم مبتوراً، مشلولاً أو منقوصاً.
وقد وجدت ضالتي في محاضرة ألقاها الدكتور. عدنان إبراهيم عن المراد من خلق الإنسان ناقصاً وقد أورد بالخطبة قول عالم الوراثة الأميركي فرانسيز كولينز:
لامعنى لأن يخلق الإنسان كاملاً، لا يمرض، لا يهرم ولا يموت.
فرُغْمَ تشكيك البعض في أنه لو كان الإنسان صنيعة الله، لكان حتماً أن يخلق على أكمل وجه، إلا أن مراد الله أن يُخْلَق ابن آدم على هذا النحو من التصميم الناقص سواء في أعضاء مبتورة أو زائدة أو نفوس ضحلة. ويرى عدنان ابراهيم أن خلق الإنسان مريض لهو أمر متعمد للابتلاء وللعبرة كما أن له إيجابيات مستترة، منها شحذ همم العلماء لاكتشاف لقاحات لعلاج الأوبئة وغيرهما، فلولا وجود الأمراض الوراثية لما وجد العلماء أنفسهم مدفوعين لدراسة علم الخلايا ومن ثم معرفة الله بشكل أعمق. فمشيئة الله ارتأت ان الأفضل للإنسان إخضاعه لمحن شتى من خلال استغلال نقائصه لا كماله، لاستكشاف إمكاناته، فالحاجة أم الاختراع والنقص وقود الكمال. فمن أسرار المصائب هي أنها تعيدنا إلى الله، كما تعود بالإنسان لإنسانيته كما ورد عن الدكتور عدنان، ويبقى تخطي المرء للآلام بمثابة إمضاء يُوَقْع به بصمة خلوده.
وقد ورد على لسان د.عدنان: جميل أن تجهل لأن ذلك سيحرضك على التعلم
وجميل أن تفتقر لتضيق بفقرك فتعمل لتوسعة رزقك
وجميل ان تتعثر لتشعر بمشاعر المعثر.
وجميل أن تكون قصيراً، فتتحدى جبل إفرست ثم تصل لقمته
ورائع أن تتخيل صغير القمر على شكل قطعة جُبن ثم تشب لتصبح رائد فضاء تحط بأقدامك عليه
وضروري أن يموت لك عزيز بمرض فتاك، فتبحث لتصل لأمصال تقهر كل عضال.
وجميل أن ينهار البطل فتحيا القيمة، فالمرء الناقص يعتاز، يفتقر، يمرض ويموت وبموته تخلد قضيته فيصبح بطلاً ماجداً. فمعظم بطولات الأبطال تترونق في مظلوميتهم وموتهم أو مصلوبيتهم، فانتصارات الأبطال تتحقق بمجرد وداعهم، فيتألق معنى تضحياتهم التي ماتوا من أجلها وبفناهم تتأبد قيمة المعنى وتخلد ذكراهم كموت الحسين.
فقبيح بك أن تظن نفسك كاملاً ومستغنياً لا تحتاج لأحد فلا تتواصل مع مخلوق
إن كل حادث مركبة يقع لك يدفعك للتعامل مع العمال والفئات الكادحة، فيتأكد احتياجك لحرفيته ونقص علمك إزاء خبراته، ما ينزلك من عليائك لتدرك أن الدكتوراه بحوزتك لم تغنك عن الحرفي والعزيمة بدارك احوجتك لخادم، للبشر، وبالضرورة رب البشر.
وأوافق العلامة القدير أن الإنسان أجل من المَلَك المبرمج على العبادة، لأن الأخير لا يقامر باحتمالية خسران، عوضا عن أنه ناجٍ سلفاً، لكن أي معنى للنجاة دون وجود مخاطر الغُرم وفرص الاختيار بين الصواب والخطأ؟
فبني آدم يخاطر بحريته في احتيار الشر أو الخير، وانتقاء الجزء الملائكي فيه عبر معاناة وجهاد وتمحض للخير ورفضه لأن يكون شيطانا. أما المَلَك فلا خيارات لديه، فهو مجبر على ترك الملهيات ولا يكابد التحديات من فقر أو قهر.
لذا، فركعتا بني آدم بكل سجدات الملائكة.