لطالما تحدّث رئيس حكومة إسرائيل نتانياهو، عن الجبهات السبع التي تحارب فيها إسرائيل، ولطالما أكّد أن إسرائيل سوف تنتصر عليها مجتمعة.
وبينما لم تستطع إسرائيل حسم حربها في أيٍّ من هذه الجبهات،، يصرّ نتانياهو على فتح جبهات جديدة في مواجهة أعداء الداخل.
والحقيقة أن الجبهة الداخلية هي الأقدم من بين هذه الجبهات كلها، وما يفعله نتانياهو حالياً هو استغلال الحرب الدائرة في تحقيق الانتصار في معاركه السياسية المؤجلة في الداخل، بعد أن كشفت الأحداث أن الائتلاف الحاكم، الذي كان يخطّط للانقلاب السياسي عبر تطبيق الثورة القضائية، أصبح، وفقاً لتعبير الصحفي في «هآرتس»، يوسي فيرتر، أقوى من أي وقت مضى.
كان أعداء نتانياهو قبل الحرب محصورين في رجال السياسة، ومنافسيه السياسيين، غير أن الحرب كشفت عن ضعف كل قوى المعارضة، وعدم جدارتها بإدارة المعركة ضد نتانياهو وحكومته، علاوة على استغلال الحكومة الحرب في تحجيم دور الشارع بدرجةٍ واضحة. كما كشفت لنتانياهو أيضاً عن عدو جديد يتمثل في قادة المؤسّسات الأمنية؛ وفي مقدّمتها قيادة الجيش، واعتبار هذه المؤسّسة معوقة له عن الحكم من دون قيود.
وفي هذا السياق يمكن استيعاب موجات الهجوم المتتابعة التي يطلقها أنصار الحكومة ضد قادة الجيش، وترويجهم نظرية المؤامرة، والخيانة الداخلية، ومحاولة الانقلاب العسكري.
إقالة غالانت جعلت رئيس الأركان وحيداً في مواجهة نتانياهو وحكومته، وهو من ثم لن يكون قادراً على المواجهة. وبذلك يتحوّل الجيش ليصبح جيش دفاع بيبي (نتانياهو)، لا جيش الدفاع الإسرائيلي، في مواصلة سياسته التي بدأها منذ شكّل حكومته الحالية بتفكيك مؤسّسات الدولة واحدةً وراء أخرى، مثلما كتب المحامي والناشط الحقوقي، إيتي ماك، في موقع العين السابعة الإسرائيلي.
ومن الواضح أن خطاب الدقائق التسع الذي قدّمه نتانياهو في الأيام الماضية مهاجماً بشكل مباشر القادة العسكريين و«الشاباك» بسبب فضيحة التسريبات التي يمكن أن تطاوله شخصياً، حمل لهجة معادية وتهديدية تجاه هذه المؤسّسات، وهو خطاب دفع المسؤول الكبير السابق في «الشاباك» والباحث الكبير في معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية بجامعة رايخمان، ليئور آكرمان، للقول إن نتانياهو عازم على إكمال المواجهة، حتى لو كانت الدولة ذاتها هي الثمن. تكرّر ما أثاره آكرمان، في مقال الصحفي في يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشوع، بعنوان «جبهة أخرى لنتانياهو، أين مسؤولية الجيش؟» معبّراً عن دهشته من تجاهل رئيس الوزراء الحديث عن الأهداف من الحرب الأصعب التي تواجهها في الجبهات المختلفة، أو الاستفادة من إنجازات الجيش العسكرية، وهو في الوقت نفسه يقوم، ومعه وزير حربه الجديد، بمواجهة المنظومة الأمنية.. ويقود هجوماً غير مسبوق ضد النّظام برمته، ويشنّ تحريضاً مباشراً ضد الجيش، بدعوى إخفائه معلومات حيوية عنه، وتسريبها بشكل متعمّد لوسائل الإعلام، رغم أن نتانياهو تجاهل قصداً، بحسب لفظ يهوشوع، التسريبات التي جرت عبر مقرّبين منه، والتي تطغى على اهتمام الإعلام الإسرائيلي منذ الكشف عنها في الأسبوعين الماضيين. ولعل العبارة الأخطر في خطاب نتانياهو قوله «سوف ننتصر في هذه الجبهة أيضاً»، ما يعني، والعبارة ليهوشوع، أن الانتصار لن يكون فقط على إيران وحزب الله و«حماس»، بل أيضاً على قادة الجيش، أولئك الذين يقودون الحرب المعقّدة متعدّدة الجبهات.
وأغلب الظن أن خطاب نتانياهو العدائي تجاه قادة الأجهزة الأمنية يهدف إلى الضغط على هؤلاء القادة لعدم مقاومة قراراته التي تهدف إلى مزيدٍ من السيطرة على الجيش.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أن ما يقوم به نتانياهو تجاه القادة العسكريين يبدو في الظاهر متوافقاً مع أحد مبادئ ثلاثة بني عليها الجيش الإسرائيلي لحظة تأسيسه، وينصّ على أن يكون الجيش تابعاً للسلطة السياسية، غير أن طريقة تعامل نتانياهو مع القيادة العسكرية، وتوظيف الجيش في حروبٍ، يدرك أغلب الإسرائيليين أن الجانب الأكبر منها يُخاض من أجل نتانياهو وليس إسرائيل، يخالف ما يعرّف به الجيش نفسه طوال الوقت بأنه «جيش الشعب». وعلى هذا الأساس، يجد الجيش نفسه في قلب صراع داخلي معقّد، وبين اختيارين أحلاهما مرٌّ؛ فإما انصياعٌ كامل لحكومة تستخدمه من أجل حساباتها، وإمّا انقلابٌ على سلطةٍ سياسيةٍ ليظلّ جيشاً للشعب، ولكل خيار تبعاته الخطيرة على مستقبل الكيان الصهيوني. والواضح أن حالة الضعف التي أصابت القادة السياسيين في الدولة، وأنتجت معارضة هشّة لم تشهد إسرائيل مثلها من قبل، أصابت بالقدر نفسه القيادات الحالية في جيش الاحتلال، وجعلت هذه القيادات غير قادرة على مواجهة قرارات نتانياهو، وقد تفاقم هذا الأمر بعد إقالة يوآف غالانت، ما يعني أن الجيش لم يعد أمامه سوى الخيار الأول بالاستسلام لإرادة رئيس الوزراء، الذي يقود الديمقراطية في إسرائيل إلى حالة موات، ويجعل من إسرائيل «ديمقراطية سابقة»، على حد تعبير الصحفي في «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنيع.
وأمام هذه الحالة من العجز في مواجهة القيادة السياسية، ينتظر الجيش أن يأتيه الخلاص عبر محاكمة رئيس الوزراء من خلال السلطة القضائية، التي استهدفتها الحكومة من يومها الأول، حين أرادت تطبيق ما عرف بالثورة القضائية، وعلى الأرجح لن يطول الوقت حتى يعاود نتانياهو فتح هذه الجبهة.