+ A
A -
داليا الحديدي
كاتبة مصرية
روى لي أحد الأقارب عن زيارة مفاجئة من أصدقاء زاروه وقت الغذاء، ففرح بهم واتصل بمطعم لإرسال الوجبات، فلم يرد أحد، فنزل بنفسه لشراء طعام الضيافة بعد أن كتب له أصدقاؤه قائمة طلباتهم.
وصل للمطعم فاتصل مرة أخرى بأصدقائه ليسألهم عما إذا كان يريد أحدهم سندوتشات كبدة، حينما وجدها متوفرة، ثم أنهى المكالمة، لكن يشاء الله أن الخط لا ينقطع، ليسمع تهامسهم الذي كشف له أن سبب الزيارة كان بهدف «الرهان عليه» كونه «سفيهاً» يستطيعون توريطه في دفع فاتورة الغذاء.. ونما إلى أذنيه قيمة الرهان واسم الرابح.
عاد الرجل لبيته ومعه الطعام، الذي منحه لأسره الناطور، ثم صعد لداره، واجه أصدقاءه وطردهم من حياته.
الشاهد لم ينصرف عن خصلة الكرم ولم يكفر بالصداقة، لكنه غير وجهة مصارفه، فانصرف عن إكرام المخادعين واستبدلهم بإكرام من يستحق. كما رفض الانصياع لعلاقة تخدُم مستغلين باسم مستعار ولو كانت معنونة ببريق الصداقة، حيث يتباهى فيها طرف بإمكانية خداع أخيه، باستغلاله ماديًا أو استنزافه عاطفيًا، أو بأي شكل من مظاهر التربح المعنوي أو المادي من العلاقات.
يعيش الإنسان دهرًا حتى يعي أن الحفاظ على صداقات في حياته لا ترادف الحفاظ على جل المحيطين به، بل إن الاختيار الواعي حتمي، والتخلص من النفايات أولى والتفرقة ضرورية بين الصديق، المعارف، الصاحب، الخدن، الشلة وسواهم.
فالناس معادن وقد تضطر لاستخدام الصفيح بتخصيصه النفايات، لكن حذار من أن تدنيه من مخدعك. فكون الإنسان كائنا اجتماعيًا لا يعدل اضطراره لإحاطة نفسه «بكدابين الزفة» لرغبته في أن يبدو محاطًا؛ فقد تتحول العلاقة المعنونة بالصداقة لعبء وحمولة ثقيلة لها اتبعات مهلكة لعمودك الفقري أو النفسي. كما أنها تُبدد طاقاتك المادية والنفسية والعصبية، وهي بذلك بعيدة عن مفهوم الصِدق في الصَداقة، بل هي محض إتاوات تدفعها من وقتك ومالك صحتك، أو قد تستنزفك عاطفيًا لتظل أسير علاقة يتم استغباؤك فيها لقبول شروطاً اعتسافية، إجبارية، تمويلية، استنزافية كي تعتمد كصديق.
لذلك فقد يصنف إنسان على أنه شخص انطوائي، في حين أنه في الواقع شخص انتقائي، فضل انتقاء قلة من المقربين المضمونين، عوضًا عن الانهماك وسط كم مهول من المستغلين.
أجدني من هؤلاء الذين يستمرون في العلاقة حد التمادي، بل حتى الوصول لنقطة فاصلة حين يلمسون أنه من المستحيل التمادي في الاحتمال.. سواء تحمل الاستعباط أو التجاهل، الاستغلال، الإهانة، المهانة، افشاء الاسرار، الترتيب في مكانة ادنى.. أو.. اشتراط الصداقة بشروط كالإخبار عن أجندة السفر وعدم احترام الخصوصية أوالمسافات.
فهؤلاء لا يخدشون الثقة في العلاقة، بل يدكونها دكاً، وباستمرارية مطمئنة، حيث إنهم كانوا يضعونك في خانة الشخص المضمون.
المشكل أن هذه الفئة لا تعطي إنذارًا قبل الرحيل، فهي تمضي.. ولا تعود ابدًا.. رغم أن هيئتها لا تشي بأنه من الممكن أن تنفصل أو تهجر.. بل تخدع ويكأن لسان الحال يقول: إذا كانت الصداقة حلو.. صفت مش حلو.. لكن الك مني وعيني.. لن أعيده من أوله..
وهؤلاء لا يهجرون من منطلق «في ألف داهية» بل عل العكس هم يدعون للصديق «بألف سلامة»
يسعدك.. شريطة أن.. يبعدك.
هم كشاب كان يستطيع حمل الأثقال حتى يربو على 200 كيلو في عنفوان شباباه.. أما وقد هرم فإنه لا يقوى على حمل كيسين من مشترواته من بقال.
ود لو أنه ظل في يفاعته وقدراته وبنيته الماضية، لكن -صدقًا- لم يعد يمتلك عافية معنوية، تعينه على رفع اثقال علاقة منهكة، فيرحل متمنيًا كل الخير لمن كان يوما ما صديقًا. فبلاء الصداقة يُطاق، فإن تضاعف صار غير مًطاق.
copy short url   نسخ
12/09/2020
2982