يفكك روسو التحديات التي تواجهها السلطة الاشتراعية، وخاصة كونها القوة النافذة في الدولة، المنتخبة من الشعب، في تمثيل الإرادة العامة، في الجهاز العام للحكم، ومراقبة الأمير (الحاكم)، ففسادها يعني مقدمة هلاك الدولة كما يقول روسو، يُحاكي روسو هنا المثل العربي الذي اختُزل في بيت شعر:
يا علماء الدين يا ملح البلد
من يصلح الملح إذا الملح فسد.
وفساد رجال الدين له ارتدادات عديدة، يستقوي به المستبد، ولكن البرلمان متى ما كان مضطلعاً بالهم العام، فهو في وقاية، بل قد يَحمي مهمة رجل الدين، أو العلماء، من نثر فتاواهم تحت تكية السلطان أو الزعيم، فروح البرلمان المتحفزة، لصالح الرأي العام، وحقوق كل فرد منه، تبدأ بالسقوط، حين يغشى هذا العضو أو السيناتور عالم المال، ويربط روسو عالم التجارة بهذا الخطر، في ذات الوقت الذي يؤكد على أهمية الملكية العامة لمسارات التجارة والزراعة، والمهن الأخرى.
لا يتحدث روسو هنا، عن مدخل الخصخصة في الفساد، لكن يُحرّض على بقاء الناس في العمل العام، وتحجيم العمل الخاص، ربما ما نراه اليوم من تدني، بل سقوط الخدمات الأساسية، في الصحة والنقل والمعيشة، تحت خديعة السرعة والإتقان تأتي تحت هذا المسار، ولم يكن العالم لينتظر في دوراته، عند مستوى المهن التي تحدث عنها روسو في زمنه.
لكن القاعدة هنا، هي في خطف مؤسسات الدولة، تحت وحش الخصخصة، قبل أن يُفيق الناس، على حقيقتها أنها مدخلٌ نظمته قوى الفساد، للسرقة وقطع الطريق عن الشعب للحصول على خدمة جيدة، بأجرٍ مناسب من الدولة.
وربطُ روسو وهو يتحدث عن القرن الثامن عشر، فتنة الفساد بدخول البرلمانيين لعالم التجارة، نراهُ حاضراً في التجربة الغربية ذاتها، في علاقات المُرشح والداعم، أو من خلال شركات المرشح البرلماني، وهي ترتع في الوطن العربي، حيث يتضخم بعضُ النواب مادياً بسرعة، فتكبر ثروتهم، ولا يبقى من صوته إلا مصالح الحكم، أو مزايدة المنصات نهاراً.
ولذلك يرفض روسو بقوة أن يُمثّل البرلمان قوة الإرادة العامة وتفويضها، فهي سيادة مطلقة هنا، لا تُعطى للبرلمان وإنما تُنزّل من الشعب ذاته، لتفرض قوتها على الأرض، يَدمج روسو دعوته للديمقراطية الدموية، بطرق الحكم الروماني، ويرى أن نموذج نزول الناس بالفؤوس لردع الآخرين، وفرض القانون الجديد، في العالم القديم هو الأفضل، ويرى أن عصرية البرلمان، التي انتقلت لزمانه، غير موثوقة وينتقد النموذج الإنجليزي.
ولا يقدم روسو وسائط مضمونة ممكن أن يُضبط بها، نزول القوة الشعبية، وبقاء تمردها على النظام العصري، حين يركن للفساد، وكيف يؤمّن السلم الأهلي والقانون معاً؟غير أن إشاراته المتعددة بشرعية الثورة والدماء، حتى تُضمن سيادة الشعب، نفهم منها حفز روسو على قهر نزعات الفساد بالقوة الدموية.
ويُرافع روسو عن الحرية، كمبدأ لا يجوز التخلي عنه، وأن محاميّ الشعب، في الدول الأوربية القديمة، كان لهم حدٌ في التمثيل داخل المؤسسات الحكومية كجهاز رقابي مباشر، لكن ليسوا بديلاً عن الشعب، في صفة المحامي العام، أو البرلمان المنتخب.
وفي عقده الاجتماعي، يعلن روسو مبدأً مثيراً للجدل، فهو يؤكد ايمانه بأن الشعوب القديمة، حينما تنزل بسلاحها للساحات بصورة مستمرة، وتقهر أي سلطة فهي هنا تمثل الشعب الحر، وأما الشعوب الحديثة، التي يعلو الاهتمام بالمعيشة وشؤون الحياة على الحرية فيها، فهي تساق للعبودية السياسية.
ويفاجئك روسو بأن قناعة تلك الشعوب القديمة، ببقاء رأيها متغلبا على القوة الحاكمة تفرضها بفأسها، هو معنى الحرية وأن عدم اشتغالهم بما يلهيهم، كان سببه وجود العبيد حيث توكل لهم مهام تنظيم المعايش، ويدافع عن تلك الحياة التي تستقوي في نظامها بالعبودية، ويمتدحها بقوة.
بل يقول بأن بقاء الحرية لا بد لها من عبودية مطلقة في الطرف الآخر، ورغم أن روسو يوضّح بأنهُ لا يقصد شرعية الرق، لكن نزعته النفسية والخطابية، تحمل الكثير من معاني إيمانه بهذه القوة الشعبية، ولا ريب أن افتتان روسو في الدولة الرومانية وأسبارطة، وتبريره للسُخرة في طرف آخر من الشعب (الطبقات الدونية والعبيد)، بل إلغائه ميزان العدالة الإنسانية، في قياساته لقوة الدولة والحق فيها، مفاهيم تحتاج للتفنيد، بل هي تناقض بعض مسلماته في تربية إميل.
فهل هيمنة العضب في روح روسو، من قوة الحاكم المنفرد، دفعته لهذا التعميم، أم أن منظوره هنا هو تقدير واقعي، لتوازنات القدرات بين نخبة الشعب السياسية، وبين طبقته العاملة، وقد يُدَافعُ عن روسو، بأنه وجه نصحه للشعوب الحديثة، وبأنه لا يشرّع الرق، لكنه يُبيّن لها، بأن حرية شعوب العهود القديمة، أقوى بدون برلمان يفوضه المجتمع المدني.