+ A
A -
محمود الحنفي كاتب وباحث سياسي

تتميز العلاقات بين فرنسا وإسرائيل بالتعقيد والتذبذب، حيث تختلط بين المصالح الاستراتيجية من جهة، والتنافر من جهة أخرى.

كانت فرنسا تحاول أداء دور «موضوعي» في عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتشارك في المبادرات الدولية الرامية لتحقيق الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، لم تخْلُ العلاقة من التوترات التاريخية، مثل قرار الرئيس الفرنسي شارل ديغول حظر مبيعات الأسلحة لإسرائيل بعد حرب 1967، ما أدى إلى تآكل الثقة بين الطرفين. وعلى الرغم من ذلك، تعمل فرنسا على الحفاظ على توازن دقيق بين دعم شراكاتها الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل ودعمها المعلن لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حل الدولتين. هذا التناقض، يجعل علاقتها مع إسرائيل محكومة بمزيج من المصالح الاستراتيجية والقيم المعلنة.

لطالما ارتبط اسم فرنسا بالدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الدولية، مستندة إلى إرث الثورة الفرنسية التي أرست مبادئ الحرية والمساواة والعدالة في عام 1789. شكل «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» حجر الأساس في القانون الدولي الحديث، وأسس لدور فرنسا القيادي في تطوير العدالة الدولية.

من خلال هذا الالتزام التاريخي، أدت فرنسا دورا محوريا في محاكمات دولية كبرى، مثل دعم المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بعد النزاع في البوسنة والهرسك، ومحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا، ودعم الجهود الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور.

وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، عملت فرنسا على تعزيز السياسات المتعلقة بحقوق الإنسان، مما جعلها قوة دافعة للعدالة الدولية.

فرنسا، التي لطالما حملت شعلة العدالة الدولية، تجد نفسها اليوم أمام اختبار حقيقي: هل ستظل وفية لمبادئها كداعم للعدالة العالمية، أم إنها ستسمح للمصالح السياسية بالتغلب على القيم التي أسست لها؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل دورها العالمي، ومكانتها كمرجع أخلاقي في النظام الدولي.

أدت فرنسا أدوارا متنوعة ومهمة في المحاكمات الدولية المتعلقة بالنزاعات الكبرى، بدءا من البوسنة والهرسك ورواندا والسودان، وصولا إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا.

دعمت فرنسا بشكل علني جهود المحكمة لمحاسبة مرتكبي الجرائم وتحقيق العدالة للضحايا، كما كانت من أبرز الداعمين لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، واستمرت في دعمها لهذه المحكمة التي أصدرت إدانات بحق متهمين بارزين.

أما في النزاع بين روسيا وأوكرانيا، فقد دعمت فرنسا المسار القضائي الدولي. رفعت أوكرانيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، متهمة روسيا بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية وتبرير غزوها بمزاعم كاذبة، كما أيدت فرنسا الدعوات الأوكرانية لإنشاء محكمة خاصة لمحاسبة المسؤولين الروس على غزو أوكرانيا.

من خلال البحث، يظهر جليّا أن العلاقات بين فرنسا وإسرائيل متينة ومتعددة الأبعاد. على الصعيد العسكري، شهد التعاون بين البلدين مراحل متقدمة، وبلغ ذروته خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. واليوم، تستمر العلاقة في مجالات التكنولوجيا العسكرية، بما في ذلك الطائرات بدون طيار والأنظمة الدفاعية المتقدمة.

في الوقت الذي تراجعت فيه فرنسا عن التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية، تباينت مواقف الدول الغربية الأخرى بشأن مذكرة المحكمة المتعلقة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. فالولايات المتحدة رفضت مذكرة المحكمة واعتبرتها غير ملزمة، مجددة دعمها لإسرائيل وانتقادها للمحكمة. وإيطاليا أبدت شكوكا حول قانونية المذكرة، مشيرة إلى أن المسؤولين الكبار يتمتعون بالحصانة. بريطانيا، من جانبها، احترمت استقلالية المحكمة، لكنها لم تقدم التزاما واضحا بتنفيذ المذكرة. أما ألمانيا، فرغم عدم إصدارها بيانا رسميا، أكدت دعمها التقليدي للمحكمة الجنائية الدولية.

أما تأثير الموقف الفرنسي، باعتبار فرنسا مركزا سياسيّا وثقافيّا في الغرب، فيُعد ملحوظا. فتراجع فرنسا عن دعم المحكمة الجنائية الدولية، مبررة ذلك بالحصانة الدبلوماسية لنتنياهو، قد يشجع دولا أخرى على تبني مواقف مشابهة أو التردد في دعم المحكمة. هذا التأثير يُضعف التضامن الأوروبي ويُقوض فعالية المحكمة الجنائية الدولية، مما يجعلها أقل قدرة على فرض العدالة الدولية. أما القيمة العملية للموقف الفرنسي فتبدو محدودة، حيث إن الموازنة بين المصالح والمبادئ تُضعف الالتزام الصريح بالقانون الدولي.

في ظل الموقف الفرنسي المعلن بعدم تنفيذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، يبرز القضاء الفرنسي، وبالأخص المحكمة الإدارية، كوسيلة قانونية فعّالة لإلزام الحكومة بالوفاء بالتزاماتها الدولية. يتمتع القضاء الفرنسي باستقلالية تجعل أحكامه ملزمة للحكومة، بغض النظر عن المبررات السياسية، ويمكن لأي جهة متضررة أو منظمة حقوقية رفع دعوى مباشرة أمام المحكمة الإدارية للطعن في هذا الموقف؛ باعتباره انتهاكا لنظام روما الأساسي والقانون الدولي. إلى جانب ذلك، يمكن تقديم مذكرات قانونية مدعومة بحجج تُظهر تعارض الموقف الحكومي مع مبادئ العدالة الدولية، مما قد يدفع المحكمة إلى إصدار أحكام تُلزم الحكومة بتغيير موقفها.عربي 21

copy short url   نسخ
03/12/2024
0