المكان عرفة، والزمان حجَّة الوداع، أما الحدث فأعرابيٌّ يسألُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُخبِرَ أنه ذاك الرجل على الناقة... ويتخطَّى الأعرابيُّ حشد الصحابة، ثم يحولُ بعضهم بينه وبين النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يخشون أن يُوقفه عن مسيره، ولكنه قال لهم: دعوا الرجل!
فدنا الأعرابي حتى أمسكَ بخطام الناقة، ونظرَ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وليتَ عينيَّ في رأسه لأرى ما رأى! فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ما تُريد؟
فقال: يا رسول الله، شيئان أسألك عنهما: أخبرني بما يُقربني من الجنة وما يُباعدني من النار!
فنظر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أصحابه وقال: لقد وُفِقَ إلى الخير في سؤاله.
ثم قال للأعرابي: اُعبدِ اللهَ ولا تشرك به شيئاً من الأوثان، وأَقمِ الصلاة المكتوبة وأدِّ الزكاة المفروضة، وصُمْ رمضان، وصِلْ رحمك.
فقال الأعرابي: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذه الأوامر شيئاً، ولا أنقصُ منها شيئاً.
فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لقد استوفيتَ، دَعِ الناقة!
فلما مضى الأعرابي، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إن تمسَّك هذا الرجل بما أُمِرَ به دخلَ الجنة، ومن أحبَّ مسروراً أن يرى رجلاً من أهل الجنة يحرص على دخولها ويسعى من أجلها فلينظر إلى هذا!
اُنظرْ إلى تواضع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لا حشم ولا خدم، ولا تاج ولا صولجان، ولا موكب ملكي، لدرجة أنه كان لا يتميَّز عن أصحابه بلباس أو علامة، وكان من لا يعرفه لا يعرف أنه هو إلا إذا دُلَّ عليه، وما عرفه الأعرابي إلا بعد أن سأل عن صفاته، ولقد تكرَّر كثيراً في السيرة أن يأتي الأعرابي من البادية والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم في أصحابه، فيدخل ويقول: أيكم محمد؟!
إنَّ هذا الدين ليس ضد التجمُّل ولا الثياب الحسنة، ولا ضد أن يُحسِّنَ المسلمُ موضع نظر الناس إليه، ولكنه قبل التجمُّل وتحسين الثياب وتحسين موضوع نظر الناس يُنادي بإصلاح القلب الذي هو موضع نظر الله تعالى!
هذا تواضع المظهر، أما الآن فانظُرْ إلى تواضع السلوك، إنه بالمفهوم الديني نبيُّ هذه الأمة، وبالمفهوم السياسي رئيس الدولة، ولكنه يقول: دعوا الرجل! ويسمحُ له بالاقتراب وإمساك زمام الناقة، ويُجيبه عما سأل، وبعضنا إذا جلس خلف مكتبه الفاخر تعالى على الناس كأنه مدير المجموعة الشمسية لا كوكب الأرض فحسب!
والآن اُنظرْ إلى تواضع المُعلم، لقد وُفِّقَ الرجل في سؤاله، فيُثني على السؤال خيراً، إنه حضٌّ خفِيٌ لأصحابه مفاده: «اهتموا بآخرتكم»!
ثمة حقيقة تغيب عنا اليوم، ألا وهي أن إصلاح الدين يُؤدي إلى إصلاح الدنيا، بينما نحن اليوم نريدُ أن نُصلح الدنيا ثم نلتفت لشأن الدين، نهتم بما وعدنا الله إياه، أكثر مما نهتم بما افترضه علينا! فعلى سبيل المثال إن الله فرضَ علينا العبادة وتكفَّل لنا بالرزق، ثم تجد من يسألك: لنفترض أني أغلقتُ دكاني وذهبتُ للمسجد وقت الصلاة، أليس من المُحتمل أن يأتي الزبون ولا يجدني فيذهب إلى غيري؟! وهذا سؤال مشروع لمن يعتقد أن الدكان ترزق، أما من يعتقد أن الله هو الرازق، وأن الدكان ليس إلا باباً للرزق، فيمضي إلى ما أُمر به وكله يقين أنه سيحصل على ما وُعد به!
ثم إن الجنّة قريبة سهلة، لا تُشرِك، صلِّ وصُمْ وتصدَّق، وصِلْ رحمكَ!
والسلام!
ليس تقليلاً من شأن الصَّدقة، ولا قيام الليل، ولا صيام النَّفل، على العكس تماماً، فما زال العبد يتقرَّب إلى الله بالنوافل حتى يُحبه، ولكن لا بُدَّ أن يُفهم أنه ما تقرَّب عبد إلى الله بمثل ما افترضه عليه، بمعنى أن قطرة عرق على جبينك في صلاة الظهر في نهار رمضان وأنتَ ذاهب إلى المسجد خير من دموعك في صلاة التراويح، لأن الأولى فريضة والثانية نافلة، ويا لحظ من جمع بين الحُسنيين!
بقلم: أدهم شرقاوي