مع دخولِ وقف إطلاق النار في لبنان حيّز التنفيذ، يعودُ التركيز السياسي والإعلامي بكامله إلى قطاع غزّة وفلسطين، مع ملاحظة أنّ الاتفاق ما زال مؤقتاً وعرضة للتخريب من نتانياهو وحكومته الفاشية.

وحتى لا يقع أحد في فخ «الإحباط واليأس» أو في فخِّ الأوهام بسوء التقدير لطبيعة التحدّيات أمامنا، أو في فخّ الارتباك الذي قد ينجُم عن تقليل تأثير ما جرى في غزّة وفلسطين خلال العام الفائت على العالم بأسره، لا بدّ من توضيح ثلاثة تقييمات لثلاثة عناصر أساسية في الصراع الدائر.

أولاً، الإدارة الأميركية: أثبت الرئيس الأميركي، جو بايدن، وأركان إدارته، انحيازهم المطلق لإسرائيل، وأكّدوا في هذا المجال عدم اختلافهم مع إدارة ترامب القادمة. وعندما أعلن بايدن من البيت الأبيض اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، رأينا على الشاشة بايدن، ولكننا سمعنا في الواقع نتانياهو.

ومن دون استباق الأحداث، لا يجوز، في الوقت نفسه التعلّق بأوهام أنّ ترامب الثاني سيختلف كثيراً عن ترامب الأوّل في ما يتعلّق بحقوق الشعب الفلسطيني أو الانحياز المطلق لإسرائيل.

ثانياً، الكيان الإسرائيلي: هناك ثلاث صفات صارت تميّز الكيان الإسرائيلي، ولا يجوز التغاضي عنها: الأولى، أنّه لا يريد، ولا يقبل، بحلّ وسط مع الشعب الفلسطيني. وبالتالي، لا مكان لأوهام «أوسلو»، و«حل الدولتين» والمفاوضات معه. ولا يشمل هذا التقييم الأحزاب الحاكمة فقط، بل وأحزاب المعارضة الصهيونية التي تبدو، في بعض اللحظات، أشدّ تطرّفاً من نتانياهو.

الثانية، أنّ المنظومة الصهيونية الإسرائيلية تحوّلت نحو الفاشية، ولا حاجة لإثبات ذلك في وجود جرائم الحرب الثلاث التي ترتكبها، والتي جعلت من نزع إنسانيّة الفلسطينيين كبشرٍ هدفاً لها.

الثالثة، أنّ استراتيجية الكيان الإسرائيلي موجّهة نحو الضم والتهويد الكامل لكلّ الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني واستخدام جميع الفرص المُتاحة لذلك. لكنّ الذي يَحكم وما سيحكم السلوكين الإسرائيلي والأميركي ميزان القوى، والوقائع على الأرض، والصمود في وجه مخطّطاتهم ومقاومتها، والخوض في ما يتطلّب ذلك، فلسطينياً وعربياً، يحتاج إلى مقالٍ آخر.

ثالثاً، العالم والمجتمع الدولي: عرّت غزّة الصامدة والجريحة، عيوب النظام العالمي بأسره، وكشفت عوراته، وأظهرت هشاشة كلّ ما يُسمّى القانون الدولي والقانون الانساني الدولي، وكلّ المنظومة التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية، كما فضحت نفاق كثيرين من مدّعي الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان، والقانون الدولي. وفي الوقت نفسه، طرح العدوان على غزّة وفلسطين، وسيظلّ يطرح تحدّيات لا يمكن للعالم الهروب منها، ومن ضمنها:

أ- التناقض الرهيب والعميق بين السماح لإسرائيل بأن تكون مُستثناة من القانون الدولي والمحاسبة والمساءلة ومحاولات تطبيق ذلك القانون في مناطق أخرى.

ب- المعايير المزدوجة كلما تعلّق الأمر بإسرائيل، ويمكن ذكر مثالين: المفارقة بين العقوبات المفروضة على روسيا وانعدام العقوبات ضدّ إسرائيل، وكذلك سلوك الكونغرس الأميركي الذي يهدّد قضاة محكمة الجنايات الدولية ومدّعي عام المحكمة بالعقوبات لأنهم طبّقوا ما ينصّ عليه القانون الدولي.

ج- حجم العنصرية البغيضة المستفحلة، والتي استخدمت، أوروبياً وأميركياً، ضدّ الفلسطينيين، والتي عبّرت عن مقدار انتشار الإسلاموفوبيا والعداء للعرب بشراً، وتصرّ على رفض معاملة الفلسطينيين والإسرائيليين بوصفهم بشراً متساوين.

د- مفهوم الدفاع عن النفس، وهل هو حقّ لطرفٍ واحدٍ دون الآخر؟ وهل يمنح حقّ الدفاع عن النفس صاحبه حقّ ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية؟ وبالارتباط مع ذلك، أليس من حقّ شعب تحت الاحتلال أن يدافع عن نفسه بكلّ أشكال المقاومة، ما دام يحترم القانون الإنساني الدولي. وإذا كان للأوكرانيين والبوسنيين حقّ الدفاع عن النفس، أليس للفلسطينيين أيضاً الحق نفسه؟

هـ- الرواية والسردية، إذ كيف يمكن السماح لإسرائيل بالتغطية على جوهر الصراع مع الشعب الفلسطيني بادّعاء إنّ مشكلتها مع الشعب الفلسطيني، مسألة إيرانية اليوم، بعدما كانت مسألة سوفييتية، أو مصرية، أو عراقية، أو سورية في السابق، عندما كان النظامان، الإيراني والتركي السابقان، أقرب حلفاء إسرائيل؟

وإلى أيّ درجة يمكن الاستخفاف بعقول الناس في الغرب وغيره، لإخفاء حقيقة أنّ الصراع الدائر هو بين شعب فلسطيني يسعى إلى الحرية وتقرير المصير في مواجهة مشروع استعماري استيطاني إحلالي يسعى إلى اقتلاعه من أرضه.

لم تنتصر إسرائيل، ولن تنتصر ما دام الشعب الفلسطيني يرفض الانكسار والرضوخ، فهدف كلّ حرب أو صراع كسر إرادة الطرف الآخر. وبعد أكثر من مائة عام من الصراع والحروب، يقف الشعب الفلسطيني أكثر إيماناً وإصراراً وأعمق فهماً، بكلّ أجياله لحتميّة الصمود والبقاء.العربي الجديد