من البديهي أن حركة التاريخ لا تتبخر فهي مثل الفعل الفيزيائي تتحول وتتبدّل، لكنها لا تختفي نهائيا. الثورات كذلك باعتبارها إحدى حركات التاريخ القوية فإنها ذات قدرة ارتدادية هائلة، وليس ما يحدث في سوريا إلا أحد أوجه هذا المنوال. صحيح أن هناك سياقا إقليميا يشهد تحولات كبيرة ومنها ملحمة طوفان الأقصى، وتساقط الميليشيات اللبنانية في الإقليم لكنّ مطلب الثورة السورية بشعاراته الأصلية يعتبر المحرّك الأساسي لما يحدث في سوريا اليوم.
هذا البناء التحليلي ينسحب على كل الدول العربية التي عرفت تحركات شعبية خلال الربيع العربي، لكنه يشمل أيضا دولا كثيرة لم تتعلم الدرس من هذه الثورات، واعتبرتها حدثا تاريخيا عابرا اختفى إلى الأبد. من قوانين التاريخ والاجتماع البشري أن المطلب الاجتماعي قد يُقمع زمنا ومكانا لكنه يبقى قائما ما لم تتم تلبيته بل إنه يتحوّل إلى آليّة أخطر في حال قمعه وإلغائه. إن المهدئات وانكار المرض لا تشكل علاجا له، بل إنها تمهد الطريق إلى موت الجسد.
يعرف السياق المشرقي اليوم تحولات عميقة وهي نفسها نتيجة لتحولات سابقة لكنها في نفس الوقت ترسم بذور التحولات القادمة. إن القول بأن المنظومات الدولية العالمية هي التي ترسم المسارات في المنطقة بما فيها ما يحدث اليوم في سوريا هو كلام نسبي، إنه يُلغي مسؤولية الفواعل المحلية أولا والاقليمية ثانية، بل وحتى الدولية متمثلة أساسا في الحرب الروسية الأوكرانية أو الصراعات الصامتة بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا.
الهدف الأساسي اليوم هو كيف يمكن أن نزيد من نصيب المنطقة في الفعل السياسي وننقص من نصيب الفواعل الخارجية باستثمار الموجات الثورية أو المطالب الاجتماعية. هذا الهدف يستوجب انخراط الفاعل السياسي الرسمي في هذا الفعل أو حتى الوعي به بما يحقق له هو مصلحة الاستقرار السياسي، والتحرر من الإملاءات الخارجية.
إن إنكار التاريخ واختيار القمع والاستبداد ومصادرة الحريات سبيل وحيد إلى الاستقرار السياسي يشكل أخطر الطرق التي تزرع كل يوم أسباب انهيار المنطقة العربية، التي بدأت عليها ملامح الأزمة الاجتماعية خاصة في الحواضر الكبرى. الثورات والاحتجاجات الاجتماعية تشبه إلى حد كبير عوارض الألم في جسد المريض، وهي بمثابة جرس إنذار لموضع الداء، فإما أن يختار المريض حالة الإنكار أو أن يبحث لألمه ومرضه عن علاج حقيقي.