في تقريره الأخير وصف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «الأونكتاد» النقل البحري بالعمود الفقري للتجارة الدولية والاقتصاد العالمي، إذ يتم نقل ما بين 80 % و90 % من حجم التجارة الدولية في البضائع عن طريق البحر، وفي كلمة له بمناسبة يوم الملاحة البحرية العالمي الذي تم إحياؤه تحت شعار «نقل بحري مستدام من أجل كوكب مستدام» وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش النقل البحري بالدعامة الأساسية التي تقوم عليها التجارة الدولية.
وأي وصف أو حديث عن أهمية النقل البحري وما يلزمه من المعايير القصوى لجودة الموانئ ودورها في النمو الاقتصادي، وتعزيز البيئة، وتنشيط العلاقات التجارية بين الدول، نجده مجسدا على أرض الواقع في ميناء حمد البحري الذي يعد حرفيا واجهة حضارية واقتصادية واجتماعية يعتز بها كل إنسان قطري، لأن هذا الميناء وُلد عملاقا، مثله مثل بقية مشاريع البنية التحتية، التي راعت الدولة فيها عند إنشائها أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، وهو إنجاز يعزز التنوع الاقتصادي كواحد من أهم أهداف التنمية المستدامة في إطار تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030.
الميناء يجسد الإرادة الفولاذية والعزيمة القوية التي لا تلين للإنسان القطري، التي اكتسبها عبر تاريخه العريق، ورسَّخها في ثقافتنا، وفي حاضرنا ومستقبلنا حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، من خلال خطاباته التي ترسم لنا نحن أبناء شعبه الطريق نحو مستقبلنا المشرق وبناء نهضتنا، وتوجيهاته التي بمثابة علامات إرشادية نهتدي بها خلال مسيرتنا، وآية ذلك أن ميناءً بهذا الحجم وقدراته الكبيرة ومرافقه الحديثة وأنظمته المتطورة، تم إنجازه في وقت أقل مما كان مخططا له، مع تحقيق الجودة القصوى، مطبقا أحدث أساليب وطرق العمليات، ومستخدما التقنيات المتبعة في تشغيليها، بأعلى معايير الأمن والسلامة، والسرعة الفائقة في التخليص الجمركي بمعدل حوالي 6000 حاوية وأكثر في اليوم الواحد، فضلا عن بقية مرافقه البحرية المتعددة كبرج المراقبة ذو التصميم الفريد بارتفاع مائة وعشرة امتار، ومنصة تفتيش السفن وغيرهما.
ولنا أن نتخيل حجم وأهمية ومكانة الميناء باحتلاله المرتبة الثالثة عالمياً رغم حداثته نتيجة مقارنته بـ 370 ميناءً متميزًا للحاويات حول العالم، من حيث كفاءة العمليات، وتقييمها، والوقت الذي تحتاجه السفن للبقاء في الميناء لإتمام أعمال الشحن والتفريغ، وذلك وفق مؤشر أداء موانئ الحاويات العالمي للعام 2021 والذي يصدر دوريا عن البنك الدولي.
وإنجاز محوري مدهش آخر من بين إنجازات عديدة أحرزها الميناء، وهو تجاوز حجم المناولات عشرة ملايين مناولة حاوية نمطية مع نهاية يوليو الماضي منذ بدء التشغيل، والمناولة هي عملية نقل البضائع من الأرصفة وإليها، وإلى داخل المستودعات والمخازن والساحات وخارجها، وتكديسها ضمن حدود الميناء، ثم شحنها من مكانها طبقا للتعليمات التي تصدرها سلسلة التوريد أو المنشأة صاحبة البضاعة.
وبما أن التفرد والتميز يُحسب بالأرقام القياسية، فالميناء قد حققهما في شهر يوليو الماضي أيضا مقارنة بالشهر نفسه من عام 2023 حيث سجل النسبة الأعلى في عدد مناولة الحاويات التي بلغ مجموعها 46 % وفي نسبة حاويات الترانزيت التي بلغت مجموعها 132 %، وزيادة نسبة مجموع مناولة المواشي إلى 271 %، واستقبل الميناء في نفس الشهر وحده 132 سفينة، وبلغَ عددُ الحاويات النمطية 146572 حاوية، كما بلغ عدد البضائع السائبة غير المعبأة في حاويات 98922 طنا، وبلغَ إجمالي مواد البناء والإنشاءات 22204 أطنان، وعدد البضائع المدحرجة 12192 وحدة، والبضائع المدحرجة هي التي تسير على إطارات كالمعدات والسيارات والشاحنات وقاطرات وعربات المترو وغيرها، وتشحن على نوع من السفن يطلق عليه سفن الدحرجة، وهي التي تنقل هذه البضائع والمسافرين للسياحة والأعمال، مزودة بتجهيزات تتيح قيادة هذه المركبات من وإلى السفينة بواسطة عجلاتها أو باستخدام وسائل نقل أخرى، تدخل عبر أبواب تسمح بسرعة التحميل والتفريغ باستخدام سلالم هيدروليكية لتسهيل حركة النقل، وتتم عملية التحميل والتفريغ بطريقة الدفع والإيقاف (الدحرجة) على سلالم تكون مجهزة بها الموانئ.
الأرقام والمزايا هنا لا نسردها لذاتها ولكن لدلالتها، فمن أبرز دلالاتها تعزيز مكانة قطر كمركز لوجستي عالمي، وهذا ما أثبته بالفعل مؤشر الأداء اللوجستي العالمي لعام 2023 الصادر عن البنك الدولي، حيث احتلت قطر المرتبة الرابعة عشرة، وهي مكانة متقدمة تضعها في الصدارة بالنظر إلى حجم سوق الخدمات اللوجستية العالمي الذي يقدر بنحو 10 تريليونات دولار، ومن المتوقع أن يبلغ 20 تريليونا بحلول عام 2030.
كما أن الزيادة القياسية في نسبة مناولة حاويات الترانزيت تؤكد الدور الكبير الذي يؤديه الميناء في تسهيل حركة التجارة الدولية وتوسيع أفاقها، مما شجيع خطوط الشحن على إضافته ضمن خدمات خطوطها الملاحية الرئيسية التي تتصل بمنطقة الشرق الأوسط، واستخدام الميناء كأحد المحاور الهامة للمسافنة، أي نقل البضائع من سفينة إلى أخرى، وإعادة الشحن إقليما ودوليا، وهذا لا يتم إلا في الموانئ الكبرى ذات المواصفات الخاصة والمزايا التي لا تتوفر في غيرها، أيضا للاستفادة من خدمات الميناء المتفردة تم مؤخراً إضافة خدمة الخط الملاحي الخليج – الصين لشبكة الخطوط الملاحية التي تصل ميناء حمد بالعالم.
جملة القول أن الميناء يتفوق على غيره من موانئ كثيرة في المنطقة وحول العالم في سرعة إنجاز الشحن والتفريغ في وقت قياسي، وتسريع النظام الدائري لشحن الحاويات، وخفض التكاليف، وزيادة القدرة التنافسية، وتعزيز صادرات النفط والغاز إلى وجهاتها النهائية، وكذلك الصادرات غير النفطية، وتحسين عمل سلاسل الإمداد، والمساعدة في انسيابية حركة التجارة الدولية، وارتفاع معدلات التبادل التجاري بين قطر ودول العالم، وهي كلها مقومات تدفع باتجاه النمو الاقتصادي، وتحقيق التنمية المستدامة، مما يعود بالنفع الكبير والخير الوفير على قطر الدول التي يخدمها الميناء، وهكذا هي قطر العصرية تقتحم عصر الحداثة والاستدامة بخطى ثابتة واثقة.وأختم بالقول: حري بنا ونحن في مستهل شهر ديسمبر، الشهر الأخير من العام والذي نحتفل فيه بمناسبة غالية على قلوبنا جميعا هي اليوم الوطني، أن نلقي الضوء على المشاريع الكبرى العملاقة التي تعتبر قطر فيها من بين الدول السبَّاقة، وكانت البداية مع ميناء حمد البحري، ويتبعه الحديث عن مشاريع أخرى كبيرة بإذن الله تعالى.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية