تصور لو أصبح كل الناس نسخة طبق الأصل عن بعضهم البعض في كل شيء. نفس الوجه والعيون وشكل الجسد والطباع والعادات والمعتقدات وطرائق التفكير ووجهات النظر. مأساة حقيقية أليس كذلك؟!
إن مجرد تخيل 8 مليارات إنسان متطابقين في كل شيء أمر مخيف، ويبشّر بالضجر والملل المدقع! فكيف سنحيا وكلما نظر إلى بعضنا البعض رأينا في الآخر انعكاساً طبق الأصل عن ذواتنا دون أي تغيير. فإذا كان الإنسان يملّ نفسه أحياناً ويتمنى لو ينقلب من حال إلى حال، فكيف يكون الأمر لو أنك رأيت ذاتك في كل امرئ يمشي على الأرض دون أي اختلاف!
بعض الجهلة يظنون أن السعادة تكمن في أن يوافقهم الآخرون على كل فكرة أو كلمة ينطقون بها، فتراهم يرفضون أي اختلاف ويريدون من الجميع أن يكونوا نسخة عنهم. ويمكن أن يتسع الأمر إلى محاربة كل من يخالفهم الرأي أو المعتقد ورفض الآخر المختلف. ففي نظرهم أي شخص يخالفهم طقساً من طقوسهم مكروه، وأي إنسان لا يتبنى وجهة نظرهم ساذج ومعتوه. إنهم يرون العالم من زاوية ضيقة لا تتعدى أرنبة الأنف! الحياة برأيهم إما أبيض أو أسود دون أي تدرجات كما هي بالفعل؛ لذلك لا يدركون جمالية الاختلاف فيسعون دائماً إلى ترسيخ الخلاف! ومما يجدر بالذكر، أن بعض الجهلاء يستمتعون باختلافهم عن الآخرين؛ لأن ذلك يشعرهم بالتفوق وبأنهم أعلى مقاماً. إنهم في عمق تفكيرهم لا يريدون أن يوافقهم الجميع على ما يقولونه أو يفعلونه حتى يستمر الإحساس بالفوقية.
إن سبب معظم الحروب البشرية والضياع الذي نحن فيه هو التعصب الفكري الذي يخلق العداوة بين الناس ويزيد عمق الفجوة فيما بينهم. وللأسف الشديد فمعظم سكان الكرة الأرضية ينتمون إلى فئة الجهلاء، إلا قلة قليلة ممن منّ الله عليهم بالعقل الرزين والحكمة والأخلاق الإنسانية النبيلة.
إن الإنسان الواعي يعلم يقيناً أن اختلاف الآراء ووجهات النظر نعمة ما بعدها نعمة، ولولا هذا الاختلاف لاستحالت الحياة جحيماً لا يُطاق. كيف لا والرتابة ستصبح جزءاً من منظومة بشرية لا إبداع فيها. الإبداع لا يأتي من التشابه، بل من الاختلاف، من القدرات المتمايزة عن بعضها البعض والأفكار المتباينة ووجهات النظر المختلفة.
لو كان عندك شركة على سبيل المثال، هل تظن أنك إذا حصلت على موظفين لديهم نفس طريقة التفكير تقريباً، فإنك ستحقق النجاح في الأسواق؟! بالتأكيد لا. لذلك تسعى كبرى الشركات إلى تعيين موظفين مختلفين تماماً من حيث الطبائع والشخصيات والأفكار، حتى يثمر التلاقي الفكري أزهاراً من الابتكار والإبداع اللامحدود. كذلك الحال بالنسبة للإنسان العاقل النبيل الذي يرحب بالاختلاف حتى لو عارض ذلك معتقداته ومبادئه الشخصية. تراه على الدوام منفتحاً للنقاش، سعيداً بالحوار، حاضراً بكل كيانه للاستماع إلى آراء جديدة يُثري بها تجربته الحياتية ويوسع بها مداركه ويتحدى من خلالها عقله وما تربّى عليه. إنه لا يمانع أن تناقشه في عاداته، ولا أن تنقض أفكاره، بل يدعو للحوار البناء وتلاقي الحضارات وإيجاد أرضية مشتركة حتى مع الذين يختلف عنهم في المعتقد.
كم نحن أحوج اليوم إلى أصحاب العقول النيرة والقلوب العامرة بالإيمان الحقيقي لا الزائف. إلى أولئك الذين يحلقون في فضاءات الفكر اللامحدود ويرحبون بالاختلاف الذي أوجده خالق الكون العظيم لنتعارف، ونستفيد من تجارب وأفكار بعضنا البعض، ونسمو إلى مراتب أعلى فكريّاً ونفسيّاً وروحانيّاً. إن اختلاف الآراء ظاهرة صحية وليس كما يظن الجهلة؛ فلنشجع الاختلاف وننأى بأنفسنا عن جدال الجهلاء الذي لا يُراد منه سوى الخلاف!