+ A
A -
د. ناجي صادق شراب كاتب فلسطيني

تسابق إسرائيل الزمن بالاستفادة من اللحظة الأميركية وعودة إدارة الرئيس ترامب لغلق ملف القضية الفلسطينية وتحويلها لمجرد ملف إنساني بنزعها عن أصولها التاريخية والقانونية والسياسية، متجاهلة أن هناك شعباً وأرضاً فلسطينية، تمتد العلاقة بينهما لآلاف السنين وحصيلتها الهوية الوطنية لشعب لا يمكن محوه وطمس هويته، وأرض تجسد هذه الهوية.

والمفارقة الأولى أن إسرائيل كدولة قامت على القوة وعلى سرديات لا واقع لها، وتم إنشاؤها وفقاً للقرار الأممي رقم 181 بشرطين أساسيين، الأول القبول بقيام الدولة العربية الفلسطينية على مساحة تقارب 44 في المائة من مساحة فلسطين، والشرط الثاني الالتزام بالقرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين، للشرطين دلالات سياسية عميقة وهي أنه يمكن التشكيك بعضوية إسرائيل في الأمم المتحده كدولة لم تلتزم بهذين الشرطين. ولم تكتف إسرائيل بذلك بل إنها تشكك في أي قرار من قرارات الشرعية الدولية، وآخرها قرار الجنائية الدولية القاضي باعتقال بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء ووزير دفاعه غالانت بسسب جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة.. ولهذا القرار أهمية ودلالات سياسية عميقة تنال من شرعية إسرائيل كدولة، وبطلان كل ما تقوم به من إلغاء للشرعية الدولية التي كانت أساس قيامها ووجودها.

أعود لملفات القضية الفلسطينية ويتصدرها ملفان لهما ألأولوية، ويشكلان تهديداً وجودياً من وجهة نظر إسرائيل، ونقيضاً لإسرائيل كدولة قومية يهودية. الملف الأول الاعتراف بحل الدولتين، والقبول بوجود دولة فلسطينية مدنية سلمية، رغم أن هناك أكثر من 124 دولة تعترف بها ولها مكانة الدولة المراقب في الأمم المتحدة، وعضويتها في العديد من المنظمات الدولية. من وجهة النظر الصهيونية وقانون القومية اليهودية الذي تتبناه إسرائيل فإن قيام الدولة الفلسطينية يعني نقضاً ورفضاً للأساس الذي قامت عليه إسرائيل كدولة. والسؤال هو ما هي استراتيجاتها للحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية؟

البداية تعود للأيديولوجية الصهيونية التي تقوم على سردية الحق التاريخي للشعب اليهودي في كل فلسطين والمؤتمر الصهيوني الأول 1897 والذي نص على قيام الوطن القومي اليهودي، مروراً بوعد بلفور المنشئ للدولة اليهودية والرافض للدولة الفلسطينية، فجاء بالوعد لقيام وطن قومي يهودي مع مراعاة حقوق الأقليات، ثم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتنفيذ وعد بلفور والتأسيس لقيام الدولة اليهودية بنقل ملكية الأرض وقيام المؤسسات اليهودية/ وكبح أي ثورات فلسطينية وصولاً للقرار الأممي 181 الذي نص على قيام إسرائيل كدولة على مساحة 54 بالمائة من مساحة فلسطين، وليأتي بعد ذلك الدور الأميركي والدور الإسرائيلي.

وخلاصة الدور الأميركي في الالتزام ببقاء وأمن إسرائيل وتوظيف الفيتو الأميركي ضد قيام الدولة الفلسطينية، وصولاً لما نراه اليوم من خداع ووهم بـ«حل الدولتين»، وما قامت به إدارة ترامب من الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبإغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وغلق القنصلية الأمركية في القدس، واليوم مع عودة هذه الإدارة وتشكيل الفريق الذي سيتولى الإدارة الأميركية، وكلهم من المنحازين لإسرائيل، يتجدد الحديث عن توسيع إسرائيل، وعدم قيام الدولة الفلسطينية، والوعد بتأييد ضم الضفة الغربية والتي تشكل القلب لكل فلسطين بمساحتها العشرين في المائة.

ولا ننسى موقف إدارة الرئيس بايدن من الحرب على غزة، والحيلولة دون صدور أي قرار من مجلس الأمن لوقف الحرب، وإدانتها والفصل بين السلام العربي والدولة الفلسطينية والتغاضي عن كل ما تقوم به إسرائيل من قضم وهضم للأرض الفلسطينية، وعدم ترجمة حل الدولتين لواقع قائم. أما إسرائيل فتضع عدم قيام الدولة الفلسطينية كأولوية عليا تقابل أمنها وبقاءها، ولتحقيق هذا الهدف تتبع استراتيجيات كثيرة تقوم على الحرب والقوة بكل مستوياتها في التعامل مع المتغير الفلسطيني، بدءاً من حرب 1948، وضمها ما يقارب 25 في المائة من المساحة التي كانت مخصصة للدولة الفلسطينية، وفقاً للقرار الأممي المذكور، ثم حرب 1967 وضمها كل الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة، وما زالت تحتلها حتى يومنا هذا.

ومنذ اليوم الأول تقوم استراتيجيتها على شغل كل الأراضي الفضاء ببناء المستوطنات، وتهويد الأراضي الفلسطينية، وتهويد القدس باتباع سياسة التدرج، ثم توظيفها اتفاق أوسلو والذي كان هدفه مجرد قيام سلطة حكم ذاتي، وظيفتها إدارة شؤون أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. والتغطية على عملياتها الاستيطانية، والتحكم في كل موارد السلطة الفلسطينية وحرمانها من ممارسة أي شكل من أشكال السيادة، وتبني استراتيجية فصل غزة عن الضفة الغربية. واليوم الهدف الرئيس من الحرب على غزة تعميق هذا الانفصال، وإجهاض نواة الدولة الفلسطينية، لتكتمل الدائرة مع أكثر الحكومات اليمينية والدينية المتشددة في إسرائيل، بتبنى استراتيجية الضم لكل الضفة الغربية، انتظاراً لإدارة الرئيس ترامب. ويبقى السؤال: هل تنجح إسرائيل في دفن حل الدولتين؟ هذا ما سأناقشه في المقالة القادمة.القدس الفلسطينية

copy short url   نسخ
09/12/2024
5