سقط بشّار الأسد، وفرّ هارباً بعد بحرٍ من الدماء. لم يكن عادلاً في شيء، سوى عدالته في توزيع الظلم على الجميع. قتلنا جميعاً، وإن لم يضع فوهة البندقية على صدور السوريين، فرداً فرداً، لكنّه كان يقتل السوريين كلّهم مع كلّ رصاصة، أو قذيفة مدفعية، أطلقها صوب أيّ شخص أو مكان في سوريا.
انتهى عهد حزب البعث الذي لم يقطف سوى محصول ما زرعه خلال أكثر من نصف قرن. مهما كتبنا ونشرنا، لن يفي الظلم حقّه خلا من عاشره. الأفرع الأمنية التي أثبتت رجولتها على السوريين العزّل فحسب، ومعها الجيش السوري «العقائدي» لم تستقو سوى على السوريين. كانت إسرائيل تجول وتصول في الجولان، وحوّلت سماء سوريا غربالاً، ورحل الأسد ونظامه، ولم نصل إلى لحظة «الردّ في الزمان والمكان المناسبين».
في الأمس، خرج رجلٌ مُسّنٌ من أحد معتقلات الموت الأسدية، لم يكن يعلم أن الرئيس الأسبق لسوريا، حافظ الأسد، رحل عن هذه الحياة، وآخرون نصبت عوائلهم خيم استقبال المعزّين بوفاتهم، ليتضح أنهم ما زالوا على قيد الحياة. لو اكتفينا بهذه الصور الأولية لواقع سوريا في ظلّ الأسد، فأيُّ بلادٍ عشنا فيها! وأيُّ وطن ووطنية وإنسانية لفحت وجوهنا!
ليس الوقت للشماتة، وما ذكر أعلاه (لا يكاد يكون أقلّ من جزءٍ أبسط من البسيط لواقع عشناه نحن السوريين) هو ما يدفعني وبقوة إلى الإصرار على الطلب من الجميع: لنحافظ على مؤسّساتنا، ولنقدم صورةً مغايرةً عما كان النظام يروّجه لحاضنته، التي ظُلِمت مثل سوريا كلّها، ويكفي القول إن الغالبية العظمى منهم، ونتيجةً للسياسات التي اتّبعها الأسد الأب، حُرِموا من التحصيل العلمي الجامعي، وزُجّوا في التطوّع ضمن الجيش والأمن، ذلك كلّه كي يحافظ على حكمه وسلطته، والزائر للقرى الساحلية يكشف حجم الفقر والبؤس والخراب الذي كانوا يعيشون في ظلاله.
الفرصة سانحة أمام السوريين لتقديم نموذج فريد من نوعه، أن تكون سوريا للسوريين كلهم، وأن نقتنع حقيقةً أن اللامركزية السياسية هي الحلّ السحري لسوريا. فبينما كان بشّار الأسد جاثماً فوق الصدور بفضل تحالفاته الاستراتيجية وموارد قوته العسكرية حملت ديناميات الصراع منذ بداية الحرب على غزّة، تحوّلات كبيرة مع مرور الوقت، وإن لجأ الأسد لسياسة النأي بالنفس وعدم الانخراط في المعركة. وإذا كانت السنوات الماضية قد أثبتت قدرة الأسد على البقاء رغم التحدّيات، فإنها أصبحت جزءاً من مشروع إطاحته.
تغيّرت خرائط التحالفات كلّها، ومن كان ينتمي إلى منظومة الأسد سيلحق به. السوريون لا ينتقمون، لكنّهم لن ينسوا ماذا فعلت بهم أطراف كثيرة، ولا من وقف بجانب الأسد ليرحل بهدوء وصمت. لا للتشفّي ولا للانتقامات، العدالة الانتقالية ستكون كفيلةً بسدّ فجوة الظلم في قلوب الأمّهات. في المقابل، كان الانضباط الكبير الذي قدمته فصائل المعارضة وقوات أبو محمّد الجولاني ضمن عملية ردع العدوان، هي التي أسهمت بشكل كبير في انضمام الآلاف من الأهالي لصفوفهم والترحيب بهم، والملفت أنه كان انضباطاً على مستوى الأفراد، والجماعات، والالتزام بالقرارات. وشكّلت آلية التعاطي مع حلب، واحدةً من أكثر القضايا الإشكالية التي كان يُمكن لها أن تُثبط أو تُثبت عدالة القضية السورية؛ حلب المدينة الأكثر تنوعاً وتعدداً عرقياً وسياسياً وقومياً.
في مقابل حالة الفوضى (لا يجب أن تشهدهاسوريا) حالة الاستقرار التي يتوجب أن تُنجز وتتحقّق. اليوم تشهد سوريا أربع حكومات كانت تسيطر على أربع مناطق هي: الإدارة الذاتية، حكومة الأسد، حكومة الإنقاذ، والحكومة السورية المؤقتة. بدا واضحاً من سياق التعامل مع حلب، أن حكومة الإنقاذ والحكومة السورية المؤقتة في طريق التأقلم مع بعضهما والاندماج، وإبعاد فكرة التشفّي أو الانتقام، عبر الطلب من موظّفي الحكومة السورية السابقة الاستمرار في أعمالهم وأنشطتهم ووظائفهم، خاصّة القضاء والتعليم والخدمات. بمعنى أن نوعاً من الدمج يحصل بين الحكومات الثلاث، لتبقى الإدارة الذاتية وحدها في مواجهة هذه الصعاب كلّها، وهي الأخرى أمام أبرز فعلين تاريخيين، الأول (بالتعاون مع الأهالي والأطراف السياسية الأخرى) حماية المؤسّسات السورية من السرقة، والطلب من الموظفين العودة إلى العمل. والثاني الاقتناع باستحالة الإدارة بمفردها، أمام تلاطم أمواج الثورة التي أنهت الأسد.
الهُويَّة السورية الجامعة هي أمانة في أعناق الجميع، سيكثر اللصوص وتجّار الحرب والأزمات، وبطبيعة الحال سنجد كثيراً من الأقنعة المرمية في قارعة الطريق، الذين سيبدّلون وجوههم وأقنعتهم لدخول مضمار الحرّية، بعد أن كانوا من أشدّ معارضيها. لكن ليكن، فلا التاريخ يرحم، ولا المواقف تُلغَى، ولا الناس أغبياء. لكن وحدها لحظة الحرّية والفرح الحقيقي والسعادة التي تغمر من انتظر هذه اللحظة، ستفرّق بينهم وبين متصنّعي الفرح. والحرّية للسوريين كلّهم.