يسود الحذر والترقب في لحظات الألم الكبرى، ويصبح التفاؤل بعيد المنال بعد تجارب سنين عجاف يمر بها العالم العربي من عقد ونيف من الزمان، وقد فقد الجميع القدرة على الاستقطاب والجدال بعد أن أنهكت المعارك السياسة والفكرية كل المتابعين. كشف كل ذلك الأخبار التي تتوالى من الشام وأكناف الشام، ومنها مشاهد السجناء المحررين والأبناء العائدين لأمهاتهم بعد غياب، المهم ماذا بعد؟ العيون كلها مصوّبة على المآلات. يشبه الأمر طوفانا حقيقيا لكن هذه المرة بطبعة سورية.
الصورة الكلية للمشهد شديدة التعقيد، لكن التفاصيل شديدة البساطة تستحق الاحتفاء. كل مظلوم يتحرر يستحق الاحتفاء به وبحريته، وكل أم تضم ولدها المحرومة منه ظلما تستحق أن نفرح لها، وكل عائد بعد غياب يستحق التكريم.. وبين هذا وذاك يمكن أن نذكر أنفسنا بأخطاء الماضي علّها تكون نافعة لنا ونحن نشاهد المشهد وعكسه على شاشات الأخبار؛ سجن ودماء وأشلاء في غزة خاصرة بلاد الشام الجنوبية، وفرح وتحرير في سوريا شمال بلاد الشام.
أولى هذه الدروس أن المنطق الميكافيلي النفعي في السياسة لا يناسب البيئة العربية والإسلامية التي عانت منه لعقود طويلة.
ثاني هذه الدروس أن الأنفال والغنائم مفسدة للجميع أي مفسدة، بداية من أنفال التسيد والرياسة والتحكم، مرورا بأنفال المال والجاه. وتزداد فتنة هذه الأنفال مع الأزمات الاقتصادية، ولست متخصصا في الاقتصاد، لكن ما هو مؤكد ومجرب أن غياب مستويات الرقابة والشفافية يفتح الباب مشرعا أمام سوء الظن والسرقات.
ثالث هذه الدروس أن المجتمع القوي يبني دولة قوية وليس العكس، فكم بنينا من دول قوية عسكريا وسياسا ولكنها لم تصمد أمام نوائب الدهر بسبب إضعاف القوى المجتمعية. وسوريا بها مخزون استراتيجي من العلماء والتجار لو أتيحت لهم حركة الحركة لتكفلوا بأن ينقلوا البلاد والعباد إلى مستوى آخر. فيا ليت العهد الجديد يعيد الأوقاف ويسمح لهؤلاء بحرية الحركة ويستثمر فيهم، ويا ليت الخطاب التصالحي مع الطوائف والأديان يشمل أيضا العلماء والدعاة والمذاهب الفقهية والمتعددة.
وختاما، فقد قدم القرآن الكريم التقوى وإصلاح ذات البين على كل الأنفال، فالمبدأ قبل المادة. والسياسة بطبيعتها متقلبة ودوام الحال من المحال، فأحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.