تمر علينا ذكرى اليوم الوطني كل عام بينما ننعم بالأمن والأمان، والعزة والاستقرار، وسط عالم يموج بالفتن والتحديات، والحروب والأزمات، وذلك بفضل الله تعالى وحكمة قائدنا حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه-، الذي يقود سفينة الوطن بهدوء وروية في قلب هذه العواصف العاتية والأمواج العالية، وليس هذا كلاما مرسلا وإنما واقع نعيشه في وطننا الهادئ، رصدتْه وأعلنته مؤشرات الأمن العالمية، ففي العام الماضي تصدرت قطر مجددا دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤشر السلام العالمي الصادر عن معهد السلام والاقتصاد العالمي في أستراليا، ومن قبل أحرزت المركز الأول عالمياً ومن البديهي الأول عربياً من بين 118 دولة في تحقيق الأمن والأمان، وفق التقرير السنوي العالمي الصادر عن موسوعة قاعدة البيانات العالمية «نامبيو»، إحدى أكبر وأشهر قواعد البيانات في العالم.
وهذه النتائج تحققت انطلاقا من تاريخنا المليء بالأمجاد، حيث تشهد لنا صفحاته وأحداثه بالتغلب على الصعاب، والتحلي بالشجاعة في مواجهة التحديات، وما كان لنا هذا التميز لولا قوة الانتماء وصدق الولاء، فالسيرة العطرة للمؤسس -رحمه الله- فيها من الدروس والعبر ما يجعلنا في الطليعة متصدرين، ومن بين الأمم متفردين، وإذا كان رجاله الأوفياء ساروا على درب الساعي درب الوفاء، حاملين توجيهاته وتعليماته، فنحن أيضا الرجال والنساء، والشباب والشيوخ نسير على درب الشموخ، حاملين توجيهات وتعليمات أميرنا المفدى، فتبوأ وطننا هذه المكانة البارزة بين الأوطان.
بتماسكنا ووحدتنا تميزنا وتفردنا، فحقَّ للوطن الغالي اليوم أن يزهو بنا، وحقَّ لنا أن نزهو به في هذه الأجواء الاحتفالية الرائعة التي تعم قطر من أدناها إلى أقصاها، والمفعمة بالحب والاطمئنان والأمان المستدام.
وإذا كان الاقتصاد هو الشغل الشاغل للعالم كله ومعيار تقدم الدول، فنحن نحتفل باليوم الوطني وقد حققنا الاستدامة الاقتصادية، وليس هذا فحسب ولكن الاستدامة في كل قطاع، بالتوازن بين الاحتياجات الحالية والمستقبلية، أصبحنا قادرين على تلبية متطلباتنا الراهنة دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، فمشاريعنا النوعية والمتنوعة التي أنجزناها وتلك التي نحن بصدد إنجازها تتيح استدامة النمو الاقتصادي، والحفاظ على القيمة على المدى الطويل، ندير مواردنا بطريقة فعالة تضمن استمرارية توفرها، مع مراعاة المحافظة على معايير جودة النظم البيئية، فتحسنت جودة الحياة للأفراد وللمجتمع ككل، وتحققت رفاهية المواطن، واكتملت منظومة التكنولوجيا الحديثة، وبدأ توليد الطاقة النظيفة المتجددة، واتسعت آفاق الابتكار، وتنمية المهارات البشرية.
نجحت دولتنا بفضل سياستها المالية ودبلوماسيتها الاقتصادية وعلاقاتها المتميزة مع دول العالم، وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية ومتعددة الأطراف، في خلق اقتصاد متنوع، قوامه جذب وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في مجالات عديدة، وتحقيق نمو مستدام في السياحة والنقل والخدمات اللوجستية والمالية والعقارات والبنوك والطاقة المتجددة، والاستثمار في التعليم وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي، والرعاية الصحية، والتصنيع مع الاستمرار في توسيع مشاريع الموارد الطبيعية كإنتاج الغاز، وكل هذا مع رصد الاتجاهات الاقتصادية العالمية للتواصل معها كشريك رئيسي في تنمية الاقتصاد العالمي.
ومن خلال الدبلوماسية الاقتصادية والسياسة الحكيمة التي انتهجتها الدولة استطاعت أن تبني علاقات متينة وشراكات استراتيجية على أسس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وآية هذا تلك الحفاوة الاستثنائية بحضرة صاحب السمو الأمير المفدى من قبل الملك تشارلز والملكة كاميلا وأعضاء الأسرة الملكية والحكومة البريطانية خلال زيارة سموه للمملكة المتحدة الأسبوع الماضي، وما ترتب عليها من تقوية العلاقات وتعزيز الشراكات في العديد من المجالات.
ومن جوهر الدبلوماسية الاقتصادية القطرية أن الدولة خصصت جزءا من مقدراتها كمنح ومساعدات اقتصادية سخية للدول الفقيرة، وتلك التي تنزل بها كوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات، والتي تعاني من ويلات الحروب، وذلك لتطوير بنيتها التحتية في التعليم والصحة والإسكان الأمن الغذائي، ليس بهدف توجيه القرارات السياسية لهذه الدول، ولكن في إطار رسالة قطر الإنسانية كقوة للخير والسلام.
وأما القطاع الخاص فيحظى بدعم كبير بتوجيهات من لدن سمو الأمير، يمكِّنه من أداء دور محوري في التنمية المستدامة، وقد استحوذ على نصيب وافر من مشاريع استراتيجيات التنمية التي أطلقتها الدولة لتحقيق رؤية قطر 2030، بما يمثل حوافز كبيرة لما يقوم به من مشاركة في رحلة التحوّل الاقتصادي القطري، وتطوير البنية التحتية والمجالات الحيوية كالصناعة، والتكنولوجيا، والبتروكيماويات، والسياحة، والتعليم، والصحة، والعقارات، والضيافة وغيرها من المشاريع التي تحقق قيمة مضافة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، وعلى ذكر الاستثمارات فإن من مرتكزات رؤية قطر الوطنية 2030 التي أرسى دعائمها سمو أمير البلاد المفدى أن الإنسان هو الاستثمار الأول للدولة، وتحقيق التنمية البشرية المستدامة أحد أهم أهداف التنمية الوطنية، وعليه دأبت الحكومة الرشيدة على الإنفاق بسخاء لتوفير تعليم نوعي للإنسان القطري كي يتسلح بالعلم والمعرفة، فيكون عنصرا فعالا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد، وذلك من خلال إرسال الكثير من الطلاب في بعثات دراسية إلى كبريات الجامعات المتميزة عالمياً، والتي تخرج منها ويعمل فيها مشاهير العلماء، للحصول على الدرجات العلمية التي تكفل لهم شرف المساهمة في مسيرة النمو والتطور، فضلا عن تشييد أحدث المدارس والمؤسسات العلمية واحتضان الدوحة لفروع كبريات الجامعات الأميركية والأوروبية، لذا كان من الطبيعي فوز مدينة الدوحة بجائزة اليونسكو لمدن التعلم لهذا العام، وهذا الفوز ليس مجرد تكريم، ولكن أيضا له مردوده الإيجابي على الاقتصاد وجذب الاستثمارات الأجنبية.
وتواصل قطر مسيرتها وسيرتها على درب الشموخ والتقدم والتطور، فأولت أهمية كبرى للابتكار وعوَّلت عليه في تحقيق التفوق، ولذلك وفرت كثير من مؤسسات الدولة بيئات محفزة لتوسيع مدارك الموهوبين والمبدعين، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر مجلس قطر للبحث والتطوير والابتكار الذي يضم في عضويته كوكبة مخلصة من أبناء الوطن، كإنجاز في أجندة البحث والتطوير والابتكار، فضلا عن استراتيجية قطر للبحوث والتطوير والابتكار التي تهدف إلى جعل قطر رائدة عالميا في مجال الابتكار والبحث العلمي وكفاءات التطوير والحوكمة في قطاعات ذات أولوية منها الطاقة والصحة واستدامة الموارد والتكنولوجيا الرقمية وكل ما يحتاجه المجتمع.
هذه البيئة الخصبة لنمو الابتكار كانت عاملا أساسيا في تحقيق الدولة مركزا متقدما في تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال لعام 2020-2021 الذي أعده التحالف الدولي للمرصد العالمي لريادة الأعمال بالشراكة مع جامعة بابسون الأميركية، وكلية لندن للأعمال، وبنك قطر للتنمية الذي يتبنى تمويل المشاريع الواعدة المقدمة من المبدعين، ويسهم في إعداد دراسات الجدوى لها، والخدمات التي تضمن نجاحها، وعلى منوال البنك نسج عدد من المؤسسات المصرفية والأكاديمية والبحثية لدعم رواد الأعمال وتوفير التمويل لتحويل أفكارهم إلى منتجات.
هذه الإنجازات الوطنية مثلما عززت الاستدامة عززت الهوية، فالشعب بفضل قيادته استلهم المعاني السامية لمفهوم الاحتفال باليوم الوطني برؤية منفتحة على آفاق المستقبل الرحب، حيث نمضي على طريق التطور والنماء والشموخ والنهضة في شتى مناحي الحياة، وفي كل احتفال يزداد الوطن وهجا وتألقا.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات