لست بارعة في اختلاق قصص، لذا، بت أحكي لأطفالي قصص قبل النوم عن شخصيات مؤثرة قابلتها في حياتي.
فمذ طفولتي وأنا أسمع عن «شوشو» سليلة عائلة «الأتاربة».
ف«شوشو» هو اسمها الحقيقي، لكنها امتلكت الجرأة لتغيير الاسم لأنه لم يعجبها إلى آخر يلائم شخصيتها فكانت «شمس».
وقد غيرت اسمها في بيئة شديدة المحافظة وفي مدينة من مدن الأقاليم، وفي حقبة متشددة في مرحلة الخمسينيات، ولم يعرف عنها استغلال اسم عائلتها للتقوت من نجاحات الأجداد، لأنها وببساطة، وجدت في نفسها قدرة ذاتية على ضخ النجاح من صميم نفسها، لا من اسم عائلتها.
سطعت «شمس» في محيطها لشخصيتها المشعة الكفيلة بترك لفحات بصماتها عليك ولو كنت قد قابلتها مرة يتيمة.
لقد مزجت «شمس» بين سمات العملية والإنسانية، فلم يقترب أحد منها إلا وشم عبق التفوق وذاب في طعم الإنساني الجميل، كما أعطيت موهبة تحويل التراب لتبر.
كما اختارت اسمها، اختارت شريك حياتها ومجال عملها كما أقامت صالونها الأدبي والذي جمعت فيه النخب المصرية وأصحاب الفنون والهوايات لتشجيعهم.
نجحت «شمس» في مجال تصميم الأزياء التراثية، فكان لها خط إنتاج للتصدير باسمها، لكن وبدون خط إنتاج، فلقد كان اسم «شمس» هو «البراند» والنجاح ذاته، كما تفوقت إنسانيًا في معاونة محيطها، فقد شجعت أبناءها على تجربة أنفسهم في مختلف المجالات، إنها من نوعية الأمهات اللائي تمرسن على حقن كروموزومات الأبناء بهرمون الثقة.
قابلتها للمرة الأولى ببيت أصدقاء للعائلة، وللوهلة الأولى، التفت لكوني أمام سيدة شقراء لها جرأة فكرية لا نظير لها، كما أنها لم تكن تتودد للأطفال بشكل ادعائي أمام ذويهم.
وقد وصفها الكاتب جمال فهمي بأنها كانت: «تقف بحماس في صفوف المنتصرين للتقدم وإشاعة نور العلم والثقافة، وتعادي بشجاعة حراس ظلام العقول والتخلف والرجعية والجهل».
مر على «شمس» الكثير من المساعدات أشهرهن «نوسة» ولكن «شمس» نفسها ساعدت الكثيرين على اكتشاف أنفسهم، فكانت عرابة وبحق، إذ كانت قادرة على استخراج النفيس من الإنسان وصقل من يأتيها مهزومًا.
أخبرتني «لايف كوتش» أن طالبًا استشارها لرسوبه المتكرر، وكانت لا ترى سببًا لفشله فقالت له: «أنت سيارة مرسيدس، لكنك بحاجة فقط لفتح الكونتاكت للتشغيل».
وقد شكرها، فقد نجح في تخطي عقبة الحصول على الشهادة الجامعية نتيجة للكلمة التي أسمعته إياها.
أما «شمس» فكانت على دراية بأهمية الدعم النفسي والعملي المساند فضلا عن كونها خبرت قوة الكلمة، فكان لسان حالها يُعلن لمن يأتيها منكسرا، أنه سيارة «هامار»، ما يعينهم على تخطي الصعاب، فلقد كانت ماهرة في تقدير الناس.
إن صغارنا يعيشون في مجتمعات احترفت حرق المواهب وتحطيم النفوس بمئات الطرق الخفية والعلنية، المقصودة والغير، وللأسف فإن التشوهات تنجم أحيانًا من النيران الصديقة.
فبعض الآباء يعتقدون أن معزتهم لأبنائهم معترف بها اجتماعيًا دون جهد، كما أن الإنفاق لهو برهان كافٍ.
فيسمع ابنه
: ودانك زي القرد
:مصيف ايه؟ انت ناقص سمرة.. أنت أصلا غامق
: ابقى قابلني لو فلحت
: مخك ما بيستوعبش الكيمياء، استحالة تدخل صيدلة.
: بن الجيران اشتغل واشترى لأمه غسالة أطباق، مش انت قاعد «عالة» زي خيبتهم.
ناهيكم عن المقارنات، إذ قلّ من يرى أهمية لمنح الاعتبار، التقدير والإصغاء للأبناء.
هذا فيض من وبال مدمر لنفسية أطفال قدِّر لهم العيش مع أهل غير مؤهلين لتربية اجيال
فنسبة ضئيلة من الآباء كـ«شمس» تدرك أهمية ترك ما في يدها لو قال لها ابنها:«بص بابا بص».
فصغارنا ينقصهم تصفيق الأم على حل مسألة فيزيائية، كما وبناتنا بحاجة لربتة كتف ولوقت والدها لإقناعها أنها وإن عجزت عن فهم مسألة هندسية، فليس هذا مرجعه لكونها غبية، بل لربما لعجز المدرس عن الإيضاح وإن درست بمدرسة دولية.
فكم نحن بحاجة لأمثال «شمس» وليتك تسمع صغيرك
أنت سيارة «هامار» وأنا على يقين بقدراتك في قيادة حياتك بنجاح.
لقد ورد في الذكر:
«ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»
حيا الله ذكرى «شمس» التي علمتنا أن ربتة الكتف من أنفع الطرق في إحياء النفوس المحروقة بنيران حبيبة.

داليا الحديدي
كاتبة مصرية