بعد شهر من اندلاع الحرب في الخرطوم، بادر فريق عمل أطلق على نفسه اسم «سودانيون مهتمون»، (كنت واحدا منهم) وهو فريق عابر للانتماء الأيديولوجي والمناطقية الجهوية، بطرح أفكار لإيقاف الحرب واستدامة السلام في السودان، وقد ضُمنت تلك الأفكار في ورقة سياسات مُلكت لعديد من الجهات السياسية والأفراد والمنظمات الفاعلة محليًا وإقليميًا، غير أن رقعة الحرب توسعت وتعمقت معها الأزمة ولم يستعِد السودانيون رباطة جأشهم ولم يتحلوا بالخصلة التي ذكرها سيدنا عمرو بن العاص في حق الروم، حين عدد في خصالهم أنهم «أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة»؛ فقد تبين لكل صاحب عقل أننا لم نعجز فقط عن الإفاقة بعد من صدمة الحرب بل عمق الاقتتال خطاب الكراهية بيننا، كما اتسعت هوة الخلاف بين السياسيين؛ فركنّا لسجالات صفرية عدمية، وإلى استسلام وانهزام أمام تناطح السياسيين وعجز العسكريين والإدارات الأهلية.

في وقت سابق، اقترح فريق عمل «سودانيون مهتمون»، تداركًا للفراغ السياسي، تبنّي رؤية لتأطير جهود الوساطة وأدوار الأطراف الثالثة، وهي رؤية قد يكون من المناسب التذكير بمضامينها في سياق اتصال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالفريق عبد الفتاح البرهان، تعزيزاً لروح التفاؤل بإنهاء هذه الحرب لصالح بقاء الدولة السودانية ورسم مستقبل البلاد، وتأكيدًا لمنظور يُعلي من رهان العمل الوطني المشترك بين أبناء البلد الواحد، منظور يُدرك أن هناك مبادرات عديدة (داخلية وخارجية) ما زالت تطرح لحل المشكل السوداني، ولكنه لم يتحقق بعد لأي منها النجاح؛ ليس فقط لأنها مبادرات أحادية الوجهة، وإن توفر لبعضها تضمين عبارات جذابة كجملة الحل الشامل الذي لا يستثني أحداً، فعيب تلك المبادرات بجانب المحتوى السياسي الذي ينظر إلى المشكل وكأنه أزمة سلطة يَكْمُنُ حلها في التدبير القانوني يتمثل في إغفال ما يمكن أن تؤديه كيمياء الثقة في الوجدان السوداني سياسيّاً، فثمة إحساس لدى جمهور من السودانيين بأن جوهر الإشكال يتمثل في فقدان «الثقة» في القادة السياسيين، وفي اقتصار حلول الأزمات السودانية وانحصارها في السياسة والقانون مع إغفال البعد الأخلاقي الذي تستند إليه المواثيق والعهود، على الرغم من أهمية الأخلاق في الحكم على الفعل السياسي.

إذا سلمنا بذلك، فإن استعادة الثقة بين الأطراف السياسية تحتاج «قادة كباراً لديهم الرغبة في التنازل عن المكاسب الحزبية الصغيرة، والطموحات الشخصية الضيقة، من أجل المصالح الوطنية الكبرى؛ قادة يمتلكون الشجاعة اللازمة للتأشير إلى مسار جديد نحو المستقبل يرتكز على الرغبة الصادقة في العيش المشترك والتضامن من أجل السلام والتنمية العادلة وإعادة البناء الوطني».

لا مفرّ، في غياب أولئك القادة الكبار ذوي المقبولية الواسعة، ولاستعادة التعافي للقوى السياسية التي عانت الأمرين في العقود السابقة، من التواضع على وساطة من طرف ثالث، تتوفر لديه الموثوقية والمكانة لدى الأطراف السودانية المختلفة بجانب القدرة على حثها على توقيع وثيقة حسن نوايا، على أن تفضي تلك الوساطة إلى تحقيق جملة من الاختراقات السياسية المهمة، منها على سبيل المثال: استعادة الثقة المفقودة بين النخب وقادة العمل الوطني، وإعادة الأمل إلى أبناء الوطن المهاجرين والمشردين وحثهم على العودة، وبلورة نموذج جديد في إدارة الخلاف والانتقال السلمي للسلطة.

إن الخروج من مناخات الخوف والخوف المتبادل يتطلب، في تقديرات فريق عمل «سودانيون مهتمون»، استصدار أربعة تعهدات تعبر عن حسن النيات، تُوقع عليها الجهات الفاعلة في المسرح السياسي السوداني بضمانات الوساطة: الأول: يصدر عن قيادة القوات المسلحة، تؤكد فيه ما أكدته سابقاً أنها ستخرج من العملية السياسية، وستتفرّغ لدورها الذي كفله لها القانون؛ وأنها ستقف على مسافة واحدة من المجموعات السياسية إلى حين انقضاء فترة انتقالية متوافق عليها بين القوى السياسية المختلفة. الثاني: يصدر عن قيادة الحركة الإسلامية السودانية، تؤكد فيه بوضوح أنها ليست راغبة في استعادة نظام البشير، وأنها لا تسعى إلى استعادة السلطة عن طريق القوة العسكرية، الثالث: يصدر عن قيادات القوى المدنية، في «تقدّم» والأحزاب المنضوية من قبل تحت إعلان قوى الحرية والتغيير، مجتمعة أو متفرّقة، تؤكد فيه إدانتها الكاملة للانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، وأنها لا تسعى إلى استعادة السلطة عن طريقها أو عن طريق القوى الأجنبية، الرابع: يصدر عن قيادات الحركات المسلحة، المختلفة، تؤكّد فيه أنها لن تستثمر الرخاوة الأمنية التي تسبّبت فيها الحرب لتنفيذ أجندتها الخاصة، الضيقة.

المأمول أن يمثل صدور هذه التعهدات الأخلاقية - السياسية، التي تعبر عن حسن النيات، الخطوة الأولى السابقة للدعوة إلى مؤتمر قمة مصغّر (سوداني - سوداني) يضم ممثلين لهذه المجموعات، بحيث يتم فيه التوقيع العلني على هذه التعهدات، لتصبح بمثابة «وثيقة حسن النيات»، وأن تتضمن فيها المبادئ الموجهة للعملية السياسية. ثم تناقش في ذلك المؤتمر أهم المحاور والموضوعات التي يُؤمل أن تفضي إلى تسوية شاملة، بحيث تضع حلولاً ناجزة لأزمة حرب 15 إبريل، بوصفها الأزمة الأخطر في تاريخ الدولة السودانية.العربي الجديد