«العدو أمامكم والبحر خلفكم»..

عبارة قالها القائد الإسلامي «طارق بن زياد» في العام 711م وقد تردد صداها في التاريخ فسارت بذكرها الركبان..

فبنهاية الربع الأول من ذلك العام أبحر القائد الشاب ببضعة آلاف من جنده على أربع سفن عبر بها مضيق على البحر الأبيض المتوسط يفصل بين المغرب الأقصى كآخر نقطة وصلتها الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري وبين أوروبا الغربية.

وقد بدأ إبحاره بسفنه الضخمة كأنه لا يلفت الأنظار لتعود أهل الشط الغربي على حركة السفن التجارية داخل المضيق لكنه عندما حط على الجبل الذي سجله التاريخ باسمه لاحقاً بلغه أن جيشاً يفوقه في العدة والعتاد بانتظاره فأمر جنده بحرق سفنهم وخاطبهم بهذه العبارة الشهيرة لدفعهم إلى القتال وعدم التراجع لاستحالة العودة، واستطاع التوغل بهم إلى أوروبا من مدخلها الأندلسي الواقع على شبه جزيرة أيبريا التي تضم اليوم دولتي إسبانيا والبرتغال وأجزاء من جنوب فرنسا وثبيت أقدامه فيها بعد الانتصار على القبائل ذات الأصول الجرمانية التي تعود جذورها إلى شرق أوروبا وتعرف بالقوطيين، وكانت أرض الأندلس جبلية جرداء غير قابلة للزراعة، لكن جعلت منها العبقرية الإسلامية واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية، وتشع بشمسها على ظلام أوروبا لمدة ثمانية قرون من العلم والمعرفة مهدت الطريق لعصر النهضة العلمية والصناعية في أوروبا.

أدى انهيار الدولة الأموية في بغداد وارتخاء قبضة السلطة المركزية في دمشق حاضرة الدولة العباسية إلى أن تسود الأندلس حالة من الفوضى والارتباك وقيام كل طائفة أو عائلة بارزة بإعلان الاستقلال في مدينة من المدن وما يحيط بها، وقد انتهزت الممالك الإسبانية الفرصة وقامت بالهجوم على المسلمين وهزيمتهم وإجبار آخر ملوك الأندلس «أبي عبد الله الصغير» على تسليم الكاردينال «مندوسة» في العام 1085م مفاتيح الحمراء بكل قصورها وحدائقها وأرباطها ومساجدها وأسواقها ومدارسها وأسوارها، ومن بعد ذلك شهدت البلاد واحدة من أسوأ مجازر القتل والذبح والتعذيب عرفت في التاريخ بمحاكم التفتيش التي لا تزال بعض متاحف إسبانيا تحتفظ بوسائل تنفيذها، وبدأ إحلال شعوب الإسبان مكان الطبقة المثقفة وأصحاب الحرف والصناعات الذين تم تهجرهم نحو مدن الشمال الإفريقي، أما عامة المسلمين فقد باتوا أقلية ضعفت لغتهم العربية مع السنين وأصبحوا يكتبون باللغة القشتالية أو الكتلانية لكن حروفها عربية.

ولا يزال الأندلس واندثار حضارته غصة في حلوق الشعراء بعد أن ضاع حلمها بين ثنايا الزمن وغاب في طيات السنين حتى أن الموشحات قد وصفت زمان وصلها بالقصير كأنه لم يكن إلا حلماً في الكرى أو في خلسة المختلس، وقد هاجت الأشجان وفاضت المشاعر أثناء زيارة رسمية إلى إسبانيا من السياسي والأديب الشاعر «محمد أحمد المحجوب» الذي عمل مهندساً وقاضياً ومحاميا ووزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء بحكومات السودان المنتخبة، والمسؤولة الإسبانية تقف أمامه بطول نخلات العراق وملاحة أهل الشام وقد كان حديثها بعذوبة مياه النيل ويشع منها سحر البحر المتوسط على ساحله الإفريقي، فشعر أنها أخت له لم يلتقها منذ قرون طويلة فهتف: (الله أكبر هذا الحسن أعرفه ريان يضحك أعطافاً وأجفاناً) و(يا أختي لقيتك بعد الهجر أزماناً لكن أين سامرنا في السالفات؟ فهذا البعد أشقانا.. فقد تباعد بعد الهجر دعوانا).

وفي المساء نزل متجولاً في الشط ولهاناً يتفرس معالم الحلم القديم وينادي أهل الحي عسى أن يعيد عهد أنس قد مضى لكنه ذاق (من التلويع ألوانا)، فسار غريباً (فلا اللسان لسان العرب الذي نعرفه ولا الزمان كما كنا ولا كانا) و(لا الخمائل تشجينا بلابلها ولا النخيل سقاه الطل يلقانا)، وفي طوافه عرج على جنة العريف بأشكالها الهندسية التي حاكتها المصائف الإيطالية في عهد النهضة، ثم وقف أمام صحن الأسود وشاهد اثني عشر أسداً رابضاً من الرخام يخرج الماء من أفواهها وتسيل الفوارات من أعلاه كأنه حوض واسع من أحواض بيوت دمشق القديمة، ولم يفته أن يزور قصر الآس وقد كان مقر السلطان ومجلس الحكم وقرأ على الحوائط والأسوار قصائد شعراء البلاط الملكي بغرناطة وموشحاتهم منقوشة في تجاويف على جانبي الأقواس والأبواب، ثم ختم طوافه بمسجد الحمراء الجامع وقد بقي منه شيء قليل هما المقصورة والكنيسة فأخرج زفرة حارة وقال: (فقد طفنا بقرطبة الفيحاء نسألها عن الجدود وعن آثار مروانا) و(عن المساجد فقد طالت منائرها تعانق السحب تسبيحاً وعرفانا) ولكن لحسرته لم يجد المساجد (يسعى في مآذنها مع العشيات صوت الله ريانا).

رجع الشاعر إلى السودان ولم يبق من الأندلس في مخيلته (سوى ذكرى تؤرقنا) فأكمل قصيدته في الخرطوم وسماها (الفردوس المفقود) مقتبساً العنوان من الملحمة الشعرية التي دونها الشاعر الإنجليزي «جون ملتون» في رواية الفردوس المفقود فأصبح هذا الاسم لحناً مدوناً على قيثارة ذاكرة الشعراء العرب يوقع بخيالهم كلما مر طيف الأندلس، وبحماس دافق بدأ في التحضير للقمة العربية الرابعة المنعقدة في الخرطوم عقب هزيمة يونيو 1976م التي احتلت على إثرها القوات الإسرائيلية الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء، وقبل بدأ الجلسات أفلح خلال وجبة غداء بمنزله على شرف الزعماء العرب في عقد الصلح بين العاهل السعودي الملك فيصل والرئيس المصري عبدالناصر وجعل جلالته يوافق على طلبه بأن تدعم المملكة مع دول النفط الإعداد العسكري العربي لاستعادة الأراضي المحتلة بمبالغ مالية سنوية تدفع لدول المواجهة اعتباراً من أكتوبر 1967م وحتى إزالة آثار العدوان، وبعدها مال جلالته نحو «المحجوب» مستفسراً: «أتبغون شيئاً لبلادكم ؟»، فأجابه قائلاً: «نحن لا نبغي شيئاً سوى وحدة الأمة وسلامتها».