إن نظام الحكومة ليس عقداً، بل قانونا، والحكومة التنفيذية ليست وليّة على الشعب، بل موظفة عنده، يُنصبها ويعزلها، فلا طاعة لهم إلا بحكم وظيفتهم من الشعب.

{ جان جاك روسو

يسعى روسو بكل قوة إلى تحديد مناط التفويض، الذي تمنحه الإرادة العامة للسلطة، ويضع ميزاناً صارماً في قاعدته التنظيرية، يمنع الحكومة من الاستقواء بالتعاقد الاجتماعي، الذي ارتضاه الشعب، ويمنع اكتساب قوتها عبره ومن خلاله، أي اعتبار الحاكم ذاته هو روح العقد الاجتماعي، فهو بات مفوضاً من الشعب لمجرد انتخابه، يرفض روسو هذا بالمطلق.

ويسعى لا لفصل السلطات وحسب، ولكن لمنع أي مساحة مناورة، تقوّض مرجعية الشعب باسم أن الحكومة مفوّضة من (السيد) الرأي العام، وينفي عن الحكومة صفة السيادة، وكأنما يجعلها أداة وظيفية إدارية محدودة، حتى تبقى تحت تقدير الشعب وممثلي الإرادة العامة، لاحظ هنا أن روسو يتحدث عن حكومات قد تتبنى قرار الحرب والسلم، ولكن في ذات الوقت فهي لا تُعتبر ذات تفويض مطلق ولكنه محدود، والمتأمل في تاريخ العالم، يتفهم مشارطة روسو القوية، على تحجيم تفويض السلطة.

فكارثة تغول الحكم واردة، ولكن أيضا الفوضى من ضعف التفويض واردة أيضاً، وضابط مرجعية الشعب المرتجاة هنا قد يختل في الأزمات، وحتى في تفويج الجمهور المؤيد للسلطة التنفيذية أو المعارض لها، لاحظ الحشود الشعبية التي خرجت في دول العالم الثالث، في اتجاهين متضادين، فأيهما يمثل السيادة هنا؟

ويردُّ روسو على من قال إن تفويض السلطة، يعني طاعة الآخرين لها، ويقول إن ذلك يعني أن صاحب السيادة أي الشعب، وضع من هو فوقاً منه (الحكم) وفوضه عليه، في حين السيادة مرتبطة بعقد واحد، كان الشعب هو ضامنه، فكيف يفوض الحاكم حقه المطلق؟

فالعقد الموجب لاستلام الحكم، هو مجرد عقد خاص، لا يمنح الحكومة فوقية على الأمة، وبالطبع كل مدارات شروط روسو، ومن يرد عليهم نظرية، وضبط هذه الأمور بدقة يستحيل، دون أن يكون المدار على قدرات العدل والنزاهة في الحكم، والتي قد تتسع فيها سلطات الأمير وتضيق، فحكم الدولة لا يمكن أن يُحدد بمسطرة دقيقة في الأزمات، رغم وجود باعث القلق، ولذلك روسو نفسه قال في موضع سابق، إنهُ لم تقم ديمقراطية قط، ولن تقوم أبداً، رغم أن روسو يحتج بأنه من غير المعقول أن يَمنَح الشعب كل ماله، ثم يقول لصاحب التفويض، أعطني منه ما تراه مناسباً لك.

ومفصل الأمر قيام الضمير الرادع في ذات الحاكم، ثم وسائط عزله حين يتفشّى فشله أو يَبرزُ ظلمه، وهي نظريات إسلامية عميقة في وصايا النبي صلى الله عليه وفي الحكم الرشيد، غير أن تشكل أهل الحل والعقد ممن يُمثلون إجماع الامة، وقطعيات الرسالة فيها، لم يقم بسبب تكرار الاستفراد بالسلطة وبيعة المتغلب، حتى أنك ترى أثر ذالك، في فقه التراث نفسه، فسيطر عليهم فقه التعامل مع المتغلب والاعتراف به، لا فقه تولية العادل الرشيد.

ويعود روسو للتأكيد على أن القانون يظل في سيطرة الإرادة العامة، فيفصل بين القانون وتنفيذ القوانين، فالتنفيذ هو الذي كُلفت به السلطة، أما القانون فمرجعه للشعب.

مستدلاً بتحول المشرعّين الإنجليز، إلى لجان في برلمانهم، يحولهم إلى حكام، وهكذا يكون المشترع حاكماً، في بعض الأحيان، وكل ذالك لأجل أن تُحمى سيادة الشعب، من تغول الحكم، مخاوف مشهودة ومبررة، لكنها تظل مبهمة في التطبيق الأخير، يبقى أن محاصرة هذه النزعات في السلطة أمر مهم، حتى لا يفسد الحكم ويتحول إلى المصلحة الخاصة.

وفي الحقيقة هذا المبدأ لا مجال لنقده، لكونه يحمي مصالح الشعب، والدولة من الانقلاب عليها، لصالح نزعات الحكم، لكن الإشكال في ضبط مساحة هذا التفويض كما قلنا، وفي تنظيم ثورة الشعب عليه، ورغم ذالك يمنح روسو مساحة حتى للحكم الملكي والوراثي، حين يُقرر الشعب تفويضهم.

إن أثر هذا التداخل ومساحة الضبابية فيه حضر لدى روسو أيضاً، ولذلك تحتاج فلسفة روسو إلى فرز دقيق، بين مؤشرات تناقض أطروحاته واضطراباتها، وبين تأكيده على ضرورة النظر، إلى مجمل العقد الاجتماعي ككتلة واحدة، لتحقيق توازن قوي، وهو ما صعب على روسو ذاته، وضع مضبطة صارمة له، فالتحرير النظري مختلف عن التطبيق التنفيذي.

ثم عاد روسو لوضع نموذج روماني قديم للاستدلال على خطورة مداخل، تمديد الحكم أو إدامة سلطة الأمير، رغم أن النموذج كان يتشكل من عشرة حكماء، حاولوا التمديد لسلطانهم، وما نراه هنا أن المرجع في صلاح الحاكم هو تقواه الوجداني الذاتي، وفي مساحة المشاركة الشعبية، ووصول الرأي الشعبي، مهما كانت وسائطه.