أذكر حين عبرت إلى غزة أول مرة كان طريقي نحو جباليا، حيث بيت جدي وجدتي لأمي، استقبلتني أشجار الكينيا الباسقة، وأعلام ممزقة، لقد دخلت دولة الزينقو، التي أرقت الاحتلال، في عام 1987، حيث كانت أزقة الرمل بين حواري الاسبست، وحدود البيوت كان الصبار، سيدات الباب يتسامرن الحديث، يلتحفن الداير، وخيمات الخمار الأبيض، كان بائع الهيطلية ما زال حيا يجوب شوارع المخيم، وكانت علية منزل خالتي وكرا لنا أولاد الذرية، نتسامر ونلهو ونلعب، فيما نسائم الهواء تهب من تل الزعتر، وتدنو نحونا، تتراقص أوراق الكينيا، لتطربنا بحفيفها الجميل، في مقطوعة موسيقية لا يوجد لها مثيل، أذكر ثلاجات الاسكمو، ومحلات شرائط الفيديو القديمة، نجتمع ليلا على أحد الأفلام الأجنبية، ونلعب الشدة (الورق) يتخللها وجبة من الشاي الساخن، وصراخ وضحك صداه يصل لآخر المخيم.

في الصباح تصيح ديوك جباليا، تخبرنا بيوم جديد، الحوانيت الضيقة تنهض باكرا، حديث الشيوخ على أبوابها، جالسين على كراسي القش الصغيرة، التي أصبحت حطبا فيما بعد، يسرح الأطفال بصحون الحديد، للحصول على الفول الساخن، ولحسة حمص على الجوانب، وقرطاس من الفلافل الشهي، يجتمع أهل الاسبست على رغيف ساخن، يقسمونه بينهم، كانت قد أعدته الأم على فرن النار، وخرج للتو (طازة).

ما إن يفرغوا من الإفطار حتى تبدأ أبواب الحديد بالقرع، إنها زيارات الأقارب المفاجئة، لا خصوصية في المخيم، لكن لا تذمر أيضا، فأبناؤها يستهوون مثل هذه الزيارات، حديث الأخوات والأمهات، يهرب الرجال من البيت فلا مكان لهم بين النساء وضجيجهن، والأطفال يجدون فرصة ليزوغوا عن أنظار الأمهات، يلعبون الاختباء بين متاهات الأزقة الضيقة، حتى يتعبون..

ورغم فرض الطوق الليلي، كان هناك متعة في من يتسابق لمغامرة الخروج، وكسر الطوق، لتصبح حدوتة على لسان أبناء المعسكر، وهذا يختلف عن تطويق المخيم بالكامل وكان يحدث ذلك للوصول إلى أحد المطاردين المطلوبين، كلها كانت حكايات، دفنت مع الدخول الثالث للجيش الإسرائيلي ونسف كل مربعات المخيم، وإعدام خانات الذكريات، وحوانيت الأجداد، وحواديث الجدات، يظهر بين الركام بعض الألوان، تشي لبقايا ألعاب، لم يبق من الطائرة الورقية سوى هيكلها المثمن، لا طرق تؤدي إلى الأزقة التي كانت، ركام وجدران، وخرسان، وأسياخ حديد، وزينقو قد ساح، وبقايا أحجار الاسبست المهشم، كانت هنا جباليا ورسومات الحائط، لا منفذ للسوق، الذي كانت تبيع فيه جدتي الذهب قبل خمسون عاما، بقايا كارات (عربات) بلا دواب، آخرها حمار كان ينزف، إلى جانب الجثث، وقطط تجوب وحيدة بين الركام تسأل عن أهل المخيم، لا جرحى في مستشفى كمال عدوان بعد العدوان، لا خريطة للمكان، قنبلة نووية ضربت المنطقة، الحاووز تهاوى ليغسل الدماء، كان هناك حياة، كان هناك مخيم..حسام أبو النصر

كاتب فلسطيني