جدّت، في الأيام القليلة الماضية، أحداث مهمّة في ليبيا، غير أنها مرّت من دون أن تثير اهتمام الناس، إلا قلّة قليلة ممّن ظلّوا متابعين شأنَها من قرب؛ المعارك التي جرت بين مليشيات داخل مدينة الزاوية (على مصفاة النفط في المدينة)؛ نقل بعض قطع أسطول البحرية الروسية إلى موانئ الشرق الليبي إثر مغادرتها السواحل السورية بعد فرار بشّار الأسد. سرقت الأحداث العظام التي استجدّت في السنة الماضية في العالم العربي (الحرب الصهيونية على غزّة ولبنان..) من ليبيا وعديد من بقاع العالم الأخرى الضوء.

ظلّت ليبيا سنوات طويلة في «عزلة» عن محيطها. تشبه ليبيا الربع الخالي الواقع في ذاكرة الناس وخيالهم. لا أحد يتصوّر أن ليبيا تقع في قلب المتوسّط، وأنها مهد حضارات عميقة حكمت المتوسّط قروناً عديدة (اللوبيون، النوميديون، البونيقيون..)، وأنها كانت كذلك همزة الوصل الصعبة والرخوة بين الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي، في امتداد العصر الوسيط، من دون إغفال منزلتها الحاسمة في حيوية التجارة التي ربطت شمال إفريقيا وما بعد الصحراء الكبرى، تجارة الذهب والملح والعبيد.. إلخ.

الانقلابات التي حدثت خلال السنوات القليلة، والحروب الأهلية التي اندلعت في السودان وتشاد، وشبكات التهجير بتواطؤ مع تنظيمات (فاغنر والقاعدة)، جعلت تلك المنطقة الواسعة جداً، خصوصاً في ظلّ الانقسام الذي عبث بـ«الجيش الليبي» أو ما يفترض أن يكون، وفي غياب قوات أخرى قادرة على صيانة الحدود (درك وجمارك وحرس وطني..)، تهدّدها كوارث محتملة. تتسارع هذه التطوّرات في ظلّ انشغال الشرق والغرب بتدبير أمن كلّ منهما الخاص، الاهتمام كلّه منصبُّ على إدامة توازن الرعب الداخلي وإطالة الحرب الباردة بين الشطرَين.

لا يبدي الشقّان المتحاربان حالياً ما يكفي من اهتمام بما يستجدّ في الحدود، ولا يكترثان بأهمّية الجلوس إلى طاولة الحوار، فالكلّ غانم من هذه الوضعية، مؤسّسة بنكية وطنية توزّع بين الشطرين (الحكومتين)، وتدفقات النفط جارية، وفيؤها لهذا وذاك. يجري الأمر بترتيباتٍ تمّ التفاوض عليها أو قُبِل بها ضمناً. المطارات مفتوحة، وحركة الجوّ صاخبة، وخبراء ورؤوس أموال وتجّار وباعة أسلحة ينزلون ويصعدون. ليبيرالية اقتصادية توهم أن الاقتصاد يتعافى، وأن ليبيا تنهض وتعمّر خرابها الذي عشّش نحو نصف قرن، ولكن «تحت الرماد اللهيب». ليست هذه سوى لوافظ غازية ترميها فوّهات البركان الليبي الخامد. مدخنة البركان الخامد حالياً تتكاثر كلّ يوم، المعارك الجارية بين حين وآخر بين مختلف المليشيات، ومدارها البترول والسلطة، دليل على احتمال الأسوأ. اقتسام النفط والسلطة سيكون عرضةً لعطب قادم، قواعد اللعبة لن تظلّ محلَّ اتفاق الجميع.