ـ كان محاطاً بعالمٍ يجهله، يجهل الكثير مما حوله، الناس، الطرقات التي سيسلكها ومن سيقابل فيها، الغد، بل اللحظة المقبلة، والمستقبل الذي ظنّه يمضي وفق خطة، ولكنّه كان يمعن في إنكار جهله، وعلى الرغم من ذلك كله كان كلّ شيء في حياته يمضي أيضاً وكأنّه يحاكي رؤيته ورغبته، مدعماً ومعززاً بتصديق من حوله بمعرفته ودرايته، وفي إحدى جلسات مصارحة الذات وفي أعمق ترددات المنولوج الداخلي في مسارب النفس البشرية اعترف لنفسه بجهله، جهله أمام كل ادعاء بالمعرفة المسبقة، وكذلك كشف عن تلك الهزيمة التي كان يواريها خلف أسوار الثقة التي يُحيط بها نفسه بإحكام الطمأنينة حولها.

ومُذ اعترافه هذا أدرك كم كان ضعيفاً بالغ الهشاشة أكثر مما ظن، وصار يشعر بضعفه وجهله أكثر فأكثر وأبصر أمامه أكثر من درب يتعقبه فيها إما الخوف والسكون أو الإقدام الذي لا يعلم إلى أين سيفضي به، أو الاستمرارية خلف حُمق الادعاء والتشدق، لكنّه بعد لم يُدرك المدى الذي بلغه في الجهل لينجو ويبرأ منه، فقد صيّر إنكاره له ردحاً من الزمن بونا شاسعا يحول بينه وبين إدراكه لماهية هذا الجهل الغريب..!

ـ منذ طفولتها كانت مولعة بصناديق الاقتراع الشفافة الثابتة على مداخل المحال التجارية الكبرى، تلك التي يرمي فيها الناس النصف الآخر من كوبونات المسابقات حيث ترمي الجزء الذي يحوي بياناتها وتحتفظ بالرقم الخاص بالمتسابق في كل مرة، ثم تنتظر تلك الحظوظ المذهلة التي لطالما أذهلها أصحابها الذين حالفتهم، مبلغ مالي ضخم، أو سيارة فارهة، أو أدوات منزلية، هذه الأشياء متوفرة لديها ولدى من فازوا بها في أغلب الأحيان ولكن الكثيرين ممن هم مثلها بل وممن يفوقونها وممن هم دونها يتحمسون لرؤية الحظوظ وهي تدور بين البشر دون تمييز ولو من خلف صناديق الاقتراع الشفافة! بل ويتطلعون بشغف لمجيء دورهم للتنعم في جمال الإحساس بأن تكون محظوظاً وسط الجموع وتفوز تلك الورقة التي ألقيت باسمك بها، وقد امتدت يد الحظ بعناية لتختارك وتصافحك دوناً عن كل البشر..!

تُرى ما الذي يجذب الحظ في كل مرة ليختار أحدهم ويُسبغ عليه تلك الهبات غاضاً النظر عمّا هو عليه في الواقع؟ هكذا كانت تُفكر وبعد مرور سنوات طوال كبرت فيها ونضجت ولم تفُز فيها مطلقاً وتكدست لديها تلك الأرقام والآمال القديمة، حينها أدركت أنّ تلك الصناديق هي وأصحابها هم المحظوظون فقط وأمّا ورقتها هي وبقية الأوراق والناس ما هي إلا حظوظ يرعاها محظوظون آخرون سواهم لحين قِطافها..!

ـ استقر منذ زمن هو وعائلته الصغيرة في هذه البلدة رغم تحذير جميع المقربين الطيبين من حوله، فقد أخبروه أن هذه البلدة لا أمان فيها مطلقاً وأنّ أهلها من أشرس الخلق وأصعبهم أخلاقاً على الإطلاق، لكنّه كعادته مضى في قراره فهو بطبيعته لا يحب الاختلاط بجيرانه أو أي ممن حوله، لذا لم يُعر الأمر أيّ اهتمام، ومرت السنوات، وأراد أحد أصدقائه الاطمئنان على حاله، وعند وصوله للبلدة سأل أهلها عن بيته فبادروه بالسؤال: وما الذي أردته من هذا الإنسان البشع جداً؟ إذ أن جميع أهل البلدة يتجنبونه لسوء طباعه، لكنّه أصر على معرفة مكانه، فأخبروه وقد حملوه مسؤولية ما سيحدث له، انقبض قلبه بشدة وقد تأثر بنميمتهم الموجزة حول صاحبه، وعلى الرغم من ذلك مضى قاصداً بيته، وعندما التقاه وجده كما عهده في الماضي ذاك الرجل الطيب والوقور جداً، ومنذ ذلك اليوم أدرك أنّ مقاييس الخير والشر تختلف وفقاً للقدر الذي يملكه الإنسان من أيّ منهما..!