قد منّ الله على المستضعفين -أكثر من غيرهم- في سوريا بالتخلص من أقسى نظام عرفته البشرية في العصر الحديث.
قام هذا النظام العائلي الطائفي منذ تسلم الأب حافظ الأسد السلطة سنة 1970، وخاصة بعد أحداث حماة 1980 - 1982، بحكم المعارضين له بالترهيب (قتل، سجون، إبعاد، تشريد، منع السفر، مصادرة الأموال، حرمان من الحقوق المدنية، تركيب اتهامات باطلة للمعارضين بتخريب الأمن أو بتجارة المخدرات..)؛ وبالترغيب للموالين له بـ (تسليم أراضٍ عامة، وظائف عالية من غير كفاءة، السماح بالاستيراد كوكيل حصري لبعض المستوردات كالآلات والسيارات، السماح بتجارة المخدرات والممنوعات والتهريب، إعطاء تنفيذ مشاريع كبرى كتنفيذ الطرقات والمشافي..).
بعد أن هب الربيع انطلقت المظاهرات في سوريا سنة 2011، فقابلها بشار الأسد بالمشاركة مع روسيا وإيران بأقصى وأقسى ما يمكن أن يستخدم ضد الشعوب، وتجاوز بذلك نهج أبيه، ووصل الأمر إلى استخدام الكيماوي ضد شعبه، وصار أكثر من نصف الشعب بين مهجر ومفقود ومقتول ومعاق.
ومن أكثر المظاهر وحشية ما كشفته 55 ألف صورة سربها قيصر، وهو اسم مستعار لمصور سابق برتبة ملازم في الشرطة العسكرية التابعة للنظام في سوريا، كان انشق عن النظام عام 2013 حاملاً معه هذه الصور، التي تُظهر التعذيب والانتهاكات في السجون السورية، مستعيناً بزميل آخر له أطلق على نفسه اسم سامي؛ خوفاً من بطش النظام.. والسجون التي اكتشف العالم جزءاً منها بعد سقوط النظام هي خير شاهد على ذلك.
وفي محاولة لكسر إرادة الشعب ظهر ما يسمى بالتشبيح.. فما هو التشبيح؟ وما أنواعه؟ وكيف يقاضى القائمون به؟
التشبيح (النشوء، المفهوم، الغايات، التصرفات)
نشأ التشبيح في عهد حافظ الأسد، وخاصة بعد مجزرة حماة التي حدثت في فبراير/ شباط 1982م وما بعد، وارتبطت بدايات النشوء بركوب سيارات سوداء، نوافذها مظللة تظليلاً أسود لتخفي من فيها، وارتبط هذا إلى حد ما بلبس أسود ونظارات سوداء، وهذه السيارات لها رمزية مخيفة في أذهان السوريين، فغالب من يركبها هم عناصر الأمن والمرتبطون به.
ولصعوبة ضبط المراد من التشبيح على وجه الدقة، يمكن القول إن التشبيح هو مفهوم أكثر منه مصطلحاً، وهذا هو الفارق بين المفهوم وبين المصطلح، فالمصطلح يكون عادة محل توافق بين متداوليه بخلاف المفهوم، ولذا فليس هناك من سبيل إلى تعريف التشبيح من حيث الغاية والتصرف، ويمكن القول إن التشبيح هو السعي للمحافظة على بقاء نظام الأسد باستخدام العنف، فالغاية التي يسعى لها الشبيح هي المحافظة على نظام الأسد بكل الوسائل.
والتشبيح أكثر ما يكون من الموالين لطائفته داخلياً، أو من العناصر التي دخلت من خارج الحدود المرتبطة به طائفياً، ولكنه ليس خاصاً بهم؛ فبعض التشبيح تمت ممارسته حتى من أهل السنة على أهل السنة، إلا أن التشبيح المنظم والبارز والأشد كان من الموالين لطائفته، ومن الذين قدموا من الخارج. ويمكن أن يكون التشبيح فردياً أو جماعياً، وليس هناك سقف محدد أو ممنوع من الممارسة، فيطلق لهم عنان التصرفات.
يبدأ التشبيح في أدنى صوره من الموالاة، ورفع صور الأسد، واتهام المعارضين بالإرهاب والارتباط بجهات خارجية والحصول على التمويل الخارجي، وليس له نهاية من حيث التصرف، وقد يكون القتل في بعض الحالات أسهل أنواعه، ولكن دون أن يسلموا جثة الضحية. ومن تلك الممارسات أيضاً قلع الأسنان، وسمل العيون، وربط المسجون على كرسي حديدي مثبت على الأرض وهو عارٍ، وتحته شمع ملتصق بالمؤخرة وهو يصرخ ألماً واستغاثة حتى يقطر اللحم على الأرض.. إلا أن أصعب أنواع التشبيح هو اغتصاب الفتاة أمام أبيها أو إخوتها، واغتصاب المرأة أمام زوجها أو أولادها، ومثل هذه المسائل شبه متواترة الأخبار عن شبيحة النظام، فشيوعها وانتشارها يغني عن البحث في مصادرها.
مصير الشبيحة
بعد سقوط النظام
غاية الشبيح هو الوصول إلى المكاسب أياً كانت، وأبرز هذه المكاسب هو الدفاع عن الطائفة في تصوره، فقد زرع النظام في طائفته أنه إن ذهب فسيُقتلون، وبالتالي بدا لهم من خلال التشبيح كأنهم يدافعون عن أنفسهم بسلوك كل التصرفات، وهم حتى في حالات السلم يمارسون التشبيح كنوع من الإذلال والتهميش والإفقار، وغاية النظام الاستفادة من هذا الشبيح.
وبناء على ذلك قد تختلف المصالح وتتغير الأولويات، فمن الممكن أن يتخلى الشبيح عن تشبيحه إذا وجد من يدفع له أكثر (منصب، مال..)، وهذا غالباً يحصل من غير أبناء الطائفة، أما أبناء الطائفة فلا ينتقلون إلى جهة أخرى ليدافعوا عنها.
وبناء على هذا نجد نظام الأسد يتخلص من بعض أتباعه عندما تكون له مصلحة قوية، فالسوريون يرون أن كثيراً من عمليات القتل التي حصلت في سوريا أثناء الثورة وقبلها كانت للتخلص من الأتباع، ومن الأمثلة على ذلك التخلص من الضابط السوري غازي كنعان، الذي شغل منصب وزارة الداخلية ورئاسة الأمن السياسي، وكان الضابط رقم واحد الذي يدير الملف اللبناني، وقد تم التخلص منه بعد اتهامه من قبل لجنة التحقيق بمقتل رفيق الحريري، وذلك لطمس معالم التورط السوري في هذا الملف، وادُّعي أنه انتحر.
فالشبيح يتلوّن ويغير من نفسيته بحسب الأوضاع، وهذا ما نراه بعد سقوط نظام الأسد؛ حيث ظهر البعض من إعلاميين وفنانين ورجال أعمال وأساتذة جامعات وشيوخ وخطباء، وقد تلونوا وغيروا من لهجتهم من أجل التخلص من تاريخهم، فبعضهم مسح الصور الموجودة على وسائل التواصل، وبعضهم رفع العلم السوري الجديد.
وينبغي ألا ننسى أن الشبيح يحتاج إلى مظلة قانونية ومظلة اجتماعية.. أما المظلة القانونية، فتطلق لهم العنان في كل تصرف؛ لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، بل يكونون موطن تكريم، وزيادة في التكريم تمنح لهم مناطق كاملة في السرقة والنهب، وقد رأينا نماذج كثيرة لما يسمى بالتعفيش، حيث يتقاسم هؤلاء الشبيحة ممتلكات الأحياء التي يدخلونها، ووصل ذلك حتى سرقة الدجاج. وأما المظلة الاجتماعية، فتمثلت بدفع النظام بعضاً من أبواقه على مستوى الإفتاء الشرعي والتوجيه الديني والتدريس الجامعي وإقامة المؤتمرات لشيطنة الثورة، والرفع من منزلة الواقفين ضدها من جيش وشبيحة.
المساءلة المجتمعية والقانونية للشبيحة
على المجتمع القيام بدروه في محاسبة من ثبت تورطه من الشبيحة، وعدم انتظار الجزاء القانوني، ولنا هنا أسوة في منهج النبي – عليه الصلاة والسلام – في تفعيل دور المجتمع في معاقبة المؤيدين للنظام؛ فقد طلب النبي – عليه الصلاة والسلام – من الصحابة ألا يكلموا الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لمدة خمسين يوماً، بل وصل الأمر إلى الطلب من الزوجة الابتعاد عن زوجها، مع أنهم تابوا -رضي الله عنهم-، ولم يكن جرمهم كجرم هؤلاء الشبيحة الذين ناصروا النظام.
وينبغي أن تزداد هذه المحاسبة المجتمعية مع ظهور الجرائم التي كانت ترتكب في السجون تحت تسميات مكافحة الإرهاب وصيانة الدولة، فالمعاقبة المجتمعية أشد من عقاب الدولة في كثير من الأحيان.
وتتمثل المعاقبة المجتمعية بصور كثيرة، منها عدم تكليم الشبيحة -ولو كانوا إخوة أشقاء- ولامجالستهم، ولا البيع ولا الشراء، وإذا خطب الشبيح خطبة الجمعة مثلاً فالمطلوب هو الخروج من المسجد، وإذا أعطى محاضرة فليخرج الطالب من القاعة.. حتى يشعروا بجريمة تصرفهم.
ولا ينبغي الاعتراض هنا بأن هذا الصنيع يؤدي إلى الهجران المنهي عنه في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي جاء في صحيح البخاري: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال».. أقول: لا يُعترض بهذا الحديث على ما ذكرنا؛ لأن الهجر الممنوع هو ما كان في المصالح الدنيوية، أما ما كان في القيم والأخلاق فإن الهجران رادع من الروادع.
يقول ابن رجب الحنبلي في «جامع العلوم والحكم»، في عدم تجويز الهجران: «وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية»؛ ويقول ابن الجوزي في كتابه «كشف المشكل من حديث الصحيحين»: «فأما إذا كان الهجر لأجل الدين فإن هجر أهل البدع ينبغي أن يدوم على مرور الزمان ما لم تظهر منه توبة ورجوع إلى الحق، وكذلك المبارزون بالمعاصي».
ولئن كانت هذه المساءلة والمعاقبة المجتمعية مطلوبة، فهي لا تغني مطلقاً عن مساءلة القانون، فالقانون له إجراءات ووسائل إثبات مختلفة، كما أنه لا يمكن له أن يعاقب على كل تصرف.. وزيادة على كل ما تقدم، الوضع الراهن في سوريا قد يستغرق وقتاً طويلاً لمحاسبة الشبيحة؛ إذ لابد أولاً من الاستقرار الأمني وتشكيل المحاكم.
هل تتعارض المساءلة المجتمعية والمعاقبة القانونية مع تحقيق السلم الأهلي؟
هناك من يطرح قضية العفو والمسامحة والمصالحة، وهذه لا بد منها خاصة في مجتمع متعدد التركيبات الأيديولوجية في سوريا، لكن هذا يتم في حال كانت الأخطاء المرتكبة ضد الناس قليلة، أما في الحالة السورية فالقضية ليست حقوقاً شخصية خاصة يمكن التسامح فيها، بل هي دماء وأعراض وظلم.
وقد رأينا نماذج من ذلك من خلال السجون السورية، والصفح في مثل هذه الأحوال هو نوع من الانهزام، وقد يُفهم على أنه تخلٍّ عن مبادئ الثورة، فالذي اغتُصب عرضه، أو قُتل أبوه أو أخوه يريد القصاص من القاتل، ولا يُشفى غليله إلا بذلك، وبذلك ينعم المجتمع وتتحقق العدالة. يقول سبحانه وتعالى: (ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتقون) (البقرة: 179). والحياة هنا هي حياة الاطمئنان والشعور بالأمان، وإذا حصل هذا حصل العمران وقامت التنمية.