عندما يكون الحديث عن وطن تألق في كل المجالات، وفي نهاية عام زاخر بالعديد من الإنجازات، يحار المرء في انتقاء الكلمات، وصياغة العبارات، والأسلوب الذي يليق بنجاحات عام مضى، طرأت فيه تغييرات كثيرة أصبحت جزءا من حياتنا، وفي نهايته نقف على أعتاب عام آتٍ وعقولنا وقلوبنا مفعمة بالأمل في أن يكون أكثر خيرا، يغمرنا فيه التفاؤل بتحقيق ما نصبو إليه من طموحات.

الكتابة عن قطر وما حققته على مدار عام 2024 تثير سؤالا، من أي موضوع أو مشروع أبدأ؟، هل من تعزيز قدرتها في الحفاظ على مكانتها كقوة اقتصادية، أم من الحفاظ على تقدمها في التصنيفات الائتمانية، ومؤشرات القياس العالمية، أم من الاحتفاظ بصدارتها كأحد المراكز الدولية في تقديم الخدمات اللوجستية، أم من تنفيذ العديد من الاستثمارات وتطوير البنى التحتية، وتنمية الموارد البشرية، أم من دمج الذكاء الاصطناعي في القطاعات الإنتاجية لرفع الكفاءة وتحسين العمليات وزيادة القوة التنافسية، أم عن الطموحات المستقبلية بتنفيذ متطلبات استراتيجية التنمية الثالثة لتحقيق رؤية قطر الوطنية، أم من التعديلات الدستورية، وما تغلغل في قلوبنا من تعزيز التلاحم بين القيادة والشعب، وترسيخ قيم المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات، وتأكيد الوحدة الوطنية؟، فرزنامة عام 2024 كما ترون مزدحمة بما تحقق، وبما يصعب علينا استيعابه في مقال واحد، لذا سنكتفي باختصار غير مخل.

عام حافل بالأحداث على كافة الأصعدة والمستويات، وفي خضم هذه الأحداث كانت قطر ولا تزال الأنظار تتجه إليها، والأضواء تتركز عليها، لكثرة الملفات التي يُطلب منها المشاركة في بحثها، لثقة الأطراف في نزاهتها، ونجاحها في كل مهمة أُسندت إليها، بفضل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد أمير البلاد المفدى -حفظه الله ورعاه-، فبتوجيهاته وتحركاته الدؤوبة تحقق لنا خير كثير، وإنجازات على المسارات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والرياضية والصحية والتعليمية والثقافية ومشاريع البنية التحتية وغيرها، نعم هكذا تألقت قطر وحجزت مكانها على خريطة المستقبل المشرق الذي ننعم فيه بالأمن والأمان، ونتمتع بالرفاهية وجودة الحياة.

حفل عام 2024 بجولات وزيارات لسمو الأمير إلى الدول الفاعلة سياسيا واقتصاديا على الساحة العالمية، ليس من أجل قطر وحدها، وإنما معها قضية العرب الأولى فلسطين، فالجولة الأوروبية شملت السويد والنرويج وفنلندا، وزيارات منفردة إلى فرنسا وبريطانيا، والجولة الأسيوية شملت الفلبين وبنجلاديش ونيبال، وجولة أميركا اللاتينية شملت البرازيل للمشاركة في قمة مجموعة العشرين بريو دي جانيرو تحت شعار «بناء عام عادل وكوكب مستدام»، فضلا عن مشاركات سموه في القمة السابعة للدول المصدرة للغاز بالجزائر، وقمة مجلس التعاون في الكويت، والقمة الخليجية الأوروبية في بلجيكا، وفي اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وغير ذلك من تحركات سموه.

وعلى مائدة البحث خلال هذه الجولات نوقشت محاور عديدة، تعززت خلالها الشراكات الاقتصادية بين قطر وهذه الدول، وفي السياسة كان ملف القضية الفلسطينية هو الأساس، لحشد الدعم من أجل نيل الشعب الفلسطيني حقه التاريخي في إقامة دولته المستقلة، والتنديد بارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية لسكان غزة، وعدوانها الآثم على لبنان.

قطر كلمتها مسموعة وفاعلة في الاجتماعات واللقاءات والمحافل الدولية، تجلت في تبنيها قيم العدل والحق، ومبدأ الوساطة والحياد تجاه الأطراف المتنازعة، وتشجيع الحوار كوسيلة لحل الأزمات، مستفيدة من مكانتها الدولية وعلاقاتها الدبلوماسية مع جميع البلدان والمنظمات الفاعلة على المسرح العالمي، ومن تمتعها بسياسة النفس الطويل للتوفيق بين الأطراف، وآية هذا أنها لا تزال حتى الآن تحاول إخراج مفاوضات إسرائيل وحماس المتعثرة من عنق الزجاجة، ولم تيأس من الوصول إلى حل.

نقترب من الشأن المحلي، وفي خانة الاقتصاد عموما يعرف الجميع تزايد أهميته في حياة الشعوب وخاصة خلال السنوات الأخيرة، بسبب التقلبات المستمرة في الأسواق العالمية، فما أن خرجت من تداعيات جائحة كورونا حتى دخلت في أزمات ناتجة عن حروب وتوترات جيوسياسية، تشهدها مناطق متفرقة من العالم في الوقت الراهن، أدت إلى تباطؤ النمو وتراجع توقعاته، فتقديرات البنك الدولي والأونكتاد أكدت أن معدلات النمو في 2024 ما بين 2 و2.5 % على أحسن الأحوال، وفي عام 2025 من المتوقع أن تنخفض من 3.3 إلى 3.2 %.

هذا عالميا، أما محليا فقد ذكرت تقديرات الجهات نفسها أن نسبة نمو الاقتصاد القطري ستبلغ 2 % بنهاية 2024، على أن ترتفع إلى 4.1 % بين 2025– 2029، وهذا نجاح فائق إذا عرفنا أن معدل النمو في منطقة اليورو 0.8 % وفي بريطانيا 0.3 %، أي أقل بكثير من 1 %، وهذا التميز لم يأت من فراغ، ولكن وراءه طموح وعمل دؤوب، وسياسة مالية متوازنة حافظت بها الدولة على استقرار سلاسل الإمداد، وتوفير كافة السلع والخدمات، وضبط الأسعار، في وقت طل فيه شبح الجوع على مناطق كثيرة من العالم، واستحكم فيها الغلاء، واضطربت بها سلاسل الإمداد.

ما كان لهذا الإنجاز أن يتم لولا وجود كفاءات قادرة على صنع النجاح، فالدولة ترى أن أهم استثمارها في رأسمالها البشري، والتنمية البشرية أولى ركائز رؤية قطر الوطنية، وخلال 2024، لذا تم ضخ استثمارات هائلة في التعليم النوعي، ليضاهي أرقى الأنظمة التعليمية في العالم، واستدامة التنمية الثقافية، وتعزيز البحث العلمي والابتكار والرعاية الصحية، وإعداد جيل واعد من الطلاب لخوض التحديات العالمية، ويبرز فيه المبتكرون والفنيون المحترفون القادرون على اتخاذ زمام المبادرات في المستقبل، وحتى لا نبالغ في الإطراء فإن ترتيبنا على مؤشر التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للعام 2023 – 2024 لا يزال دون الطموح، حيث نأتي في المرتبة الأربعين، وهذه المرتبة وإن كانت دون الطموح إلا أنها مقبولة بالقياس إلى دول أخرى كثيرة.

رأس المال البشري هو القوة القادرة على النمو والتطوير، والطاقة المحركة التي يحقق بها المجتمع خيرا كثيرا، نتيجة لاستيعاب منجزات العلم والتكنولوجيا والتغلب على تحديات العصر، فالأمر حقا يقتضي مزيدا من الاهتمام به ومزيدا من الاستثمار فيه خلال عام 2025.

التنمية البشرية المستدامة تحقق التنمية الاجتماعية التي تعظم التماسك والترابط الاجتماعي، والتلاحم بين القيادة الرشيدة والشعب الواعي، وهنا نذكر بكل الاعتزاز عبارة سمو الأمير في خطابه أمام مجلس الشورى والتي لا يزال صداها يتردد على الأسماع «إن علاقة الشعب بالحكم في قطر هي علاقة أهلية مباشرة»، وقد تجلى هذا الترابط في نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي حظيت بموافقة 90.6 % من مجموع الناخبين، لأنهم رأوا أن العودة إلى نظام التعيين لأعضاء مجلس الشورى فيها المصلحة العليا للبلاد، وتحقق العدل والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، وتقطع الطريق على ما يعكر صفو المجتمع من هفوات تتخلل الانتخابات.

إنجازات كثيرة تحققت لا يتسع المجال لذكرها، ولا المساحة المتاحة لسردها، وطموحنا في عام 2025 أن نكمل كل ما بدأناه في مبادرات استراتيجية التنمية الثالثة، وتحقيق المزيد من المشاريع المتعلقة بالطاقة والصناعة والتعليم الراقي، طموحنا في كل أعمالنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وكل الشواهد تقول إننا بإذن الله وبرأسمالنا البشري لقادرون.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة تطوير التخطيط الاستراتيجي والموارد البشرية