+ A
A -
عمر العمركاتب وصحفي سوداني

في حربنا المقيتة في السودان تتواتر مصطلحات قاموس «الأزمة الإنسانية». أحياءٌ سكنيةٌ مدمّرة بمن وما فيها. مدنٌ مهجورة، وصنوف العنف والتوحّش كلّها، وأعداد مهولة من القتلى فوق العدّ، وأكثر من ذلك مصابون وجرحى، وجوعى ومرضى، وأرقامٌ مجهولة لأسرى. فيها الإجبارعلى الإخلاء والنزوح وهجر السكن وفقد أرصدة الكدّ الذاتي والتعرضُ المهين للنزوح والنهبُ والسلب. كذلك ركوب الصعب والمستحيل هرباً من جحيم إلى جحيم آخر. فيها مكابدةُ الحرق والغرق، والقتل على الهُويَّة.

تلك المعاناة القاسية مؤلمةٌ حتى العظم. لكن، من آثار الأزمة الإنسانية المعيشة في امتداد الوطن (السودان) جروح يغور أذاها في داخل الروح، كما قال مبدعنا الراحل محجوب شريف، «الجروح بتروح.. لكن جروح الروح ما بتروح». هذه جمرات الأزمة الإنسانية ونارها الحارقة. ربّما يندرج في هذا اللهب الشعور بالإهانة المتعمّدة وبالعجز والمهانة، لكنّها تتضمّن حتماً عمليات هتك العرض. ذلك إحساسٌ يكتسب أنياباً مسعورةً، إذ يعرّي فشل المؤتمنين بقوة الدستور على الحماية، بل تورّطهم في تلك الأعمال القذرة.

تلك البلايا كلّها، تغطّي رقاعاً عريضةً من الوطن. المنظّمات الدولية لا تكتفي فقط بتأطير كارثة الجوع المتمكّنة من الشعب حتى العظم، بل تحذّر من استشراء مساحة الجوع أفقياً ورأسياً، فمنظّمة الصحة العالمية تحدّد خمس مناطق تكابد مجاعةً ضروساً. كما تحذّر من سقوط خمس مناطق مغايرة بين فكّي الجوع لا محالة، خلال النصف الأول من السنة الجديدة (2025). أبعد من ذلك، يؤشّر تقرير دولي إلى 17 منطقة أخرى يهدّدها شبح المجاعة. يصنف وزير الخارجية البريطاني وضع الأمن الغذائي في السودان بـ«مثير للقلق». بابا الفاتيكان ينادي بمفاوضات تستهدف وقف إطلاق النار. انتشار العمليات العسكرية وأشكال العنف في دارفور وكردفان والجزيرة وسنار، ومناطق في النيل الأبيض عرقلت الإنتاج الزراعي. ذلك بعضٌ ممّا ورد في تقرير لجنة متابعة الطوارئ الإنسانية.

لعلّ كشف ذلك البعد اللاإنساني من الحرب الظالمة دفع الجنرالات مغتصبي السلطة إلى أن يسارعوا إلى إعلان مقاطعتهم المنظّمات الدولية الإنسانية المعنية بالأمن الغذائي. للمفارقة، فقد بثّت وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا)، بالتزامن مع تلك الفضيحة، أخباراً عن عصاباتٍ تنهب بيوتاً في كرري، بالإضافة إلى ذلك، تداول المتصفّحون صورَ تكدّس جموع من اللاجئين في القاهرة طلباً لإغاثة الشتاء. من المفارقة، المضحكة المبكية في الأزمة الإنسانية، مشاركة حاكم دارفور تحت جنح الحرب والأزمة الإنسانية الطاحنة في مؤتمر للأحزاب الاشتراكية في الرباط. هو لا ينتمي إلى أيّ حزب، بل زعيم فصيل مسلّح، وهو أحد مروّجي الكراهية ودعاة الفاشية.

لا أحد يمتلك، مع اكتناز الأزمة وانهيار الدولة «ماكينزم» إحصاء لضحايا الجوع والمرض، والتصفيات الوحشية على المستوى الفردي والجماعي. الكلام عن انتهاكات حقوق الإنسان يصبح ترفاً تحت ظلّ هذا التفحّش في التوحّش، بما ذلك التلذّذ في ممارسات التعذيب المُمعِنة في الإذلال، وفق جميع أشكال العنف العشوائي والممنهج. عند حلول يوم (يأتي حتماً) يُرفع فيه الغطاء عن كل أهوال الرعب، سندرك جميعاً كم هي غائرة تلك الجروح في الأرواح الصابرة الصامدة الصامتة حدّ الجنون. في زمن تفكّك الدولة، وتفشّي حُمَّى الخوف الجماعي، شاهدنا بنات جزيرة أبا وأبناءها في هجرة جماعية هرباً من الماء، هي الأولى من نوعها، فأهل أبا عُرف عنهم الثبات في وجه الماء والنار، لكنّ عجز الدولة في أمواج الأزمة أجبرهم على ما كرهوا. البعد الخفيّ في الهجرة الفريدة أن لا إمامَ ولا هاديَ لها ولا وجهةَ محدّدة. ذلك الخروج الكبير من أبا، كما من الجزيرة سابقاً، من أشدّ مظاهر الأزمة الإنسانية إيلاماً. استبدال العملة وحرقها، كما عملية الامتحانات المرتجلة، يعكسان محاولات بائسة لتأكيد وجود بقايا من أجهزة الدولة. كم هي محزنة أحوال الشباب المعطّل دولاب دراستهم، والمجمّدة تطلعاتهم الحياتية وأحلامهم.

حين يشطّ الجنون بالمتنافسين على السلطة حدّاً يُسوّقون عنده وحشيتهم، المُجرَّدة من الحدّ الأدنى من الإنسانية، عملاً وطنياً، لا يبقى لناشط سياسي مساحةٌ للدفاع عن نفسه. دع عنك أفكاره. لئن انضمّت الطبقة الطفيلية إلى مهرجان الزيف الموشّح بالعنف والدم، فمن المؤلم إنسانياً التحاق أدعياء الدعوة بالإسلام السمح بإنسانيته، وأدعياء التبشير بالكرامة الإنسانية والعدالة والثقافة، بمعسكر الرعب والعنف. هؤلاء هم صنعة ومصمّمو العنف والأزمة والحرب بنجومها السوداء. من المؤلم الانشغال بالجدل المحموم المسموم بين فسطاطَين، أحدهما ينادي بوضع نهاية للحرب، وآخر يصرّ على إجهاض كلّ جهد يُبذَل بغية إطفاء النار. فكما قال عمر بن الخطّاب: «مراجعة الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل»، فكيف يكون دعاة وقف الحرب أنصاراً لممارسي القتل والاغتصاب؟ فمشعلو الحرب ودعاة استمرارها يخادعون الواقع، والأبرياء المُعذَّبين المبعثرين في الجهات الأربع، من أجل استرداد امتيازاته المكتسبة زوراً وبهتاناً، كما كانت إبّان احتكارهم مفاصلَ الدولة ومصادر الثروة.{العربي الجديد

copy short url   نسخ
02/01/2025
5