+ A
A -
جريدة الوطن

لدي شغف كبير بالقراءة وفهم التاريخ منذ صغري، خاصة فيما يتعلق بإنجازات الإمبراطوريات العظيمة في العصور الماضية. تعلمت أهمية تقدير التاريخ، لأنه يساعد الفرد على فهم هويته وفهم العالم من حوله، ويقدم له العديد من الدروس القيمة التي يمكن الاستفادة منها.

عادة ما تنشأ الإمبراطوريات من بقايا إمبراطوريات سابقة، بدءًا من الإغريق والرومان وصولًا إلى البريطانيين، حيث تتطور مع مرور الزمن وفي النهاية تواجه الانحدار.

إن دراسة التاريخ تمنحنا نافذة لرؤية الأسباب التي أدت إلى انتصار هذه الإمبراطوريات ثم انهيارها في النهاية.

قدم عالم الاقتصاد الأميركي المعاصر، الأستاذ ريتشارد وولف، ندوة عبر الإنترنت بعنوان «نهاية الإمبراطورية الأميركية وزوالها، وصعود الصين ومجموعة البريكس»، تناول فيها كيف أن الولايات المتحدة على وشك مواجهة انهيار مماثل.

أعتقد أن هذا يعكس بدقة الواقع الجيوسياسي الحالي، حيث تبرز الصين كقوة عالمية مستقبلية، وهو ما أود مشاركته معكم إلى جانب أفكاري.

قدّم الأستاذ وولف تحليلاً ممتازًا عن كيفية ظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية في القرن التاسع عشر، بعد تفكك الإمبراطورية البريطانية.

ازدهرت الرأسمالية الأميركية حينها، خاصة بعد الحرب الأهلية التي أنهت النزاع الداخلي بين الشمال الرأسمالي والجنوب الذي كان يعتمد على نظام «السود».

من سبعينيات القرن التاسع عشر وحتى السبعينيات من القرن العشرين، شهدت الولايات المتحدة نموًا اقتصاديًا غير مسبوق، مع زيادة ثابتة في الأجور الحقيقية والأرباح. وقد أدى هذا العصر من الازدهار إلى الإيمان بفكرة الاستثنائية الأميركية، والتي تنص على أن الولايات المتحدة كانت متفوقة بطبيعتها ومصيرها هو النمو المستمر.

يمضي وولف ويذكر كيف شكلت السبعينات من القرن العشرين نقطة تحول. فقد توقفت الأجور الحقيقية عن الارتفاع، وتوقف النمو الاقتصادي الذي كان يميز القرن السابق. واجهت الطبقة العاملة الأميركية، التي كانت قد اعتادت على زيادة الأجور وتحسن مستوى المعيشة، واقعًا جديدًا قاسيًا. دخلت النساء سوق العمل بأعداد كبيرة، وارتفعت ديون الاستهلاك بشكل كبير في ظل معاناة الأسر للحفاظ على مستوى معيشتها.

يضيف وولف، يبدو أن الجيل الأصغر في الولايات المتحدة مستاءً من الرأسمالية والديمقراطية. فقد أدت زيادة معدلات التضخم، وثبات الأجور، وارتفاع الديون إلى تقليص الفرص التي كانت تتمتع بها الأجيال السابقة. ويشير وولف إلى أنه على مدار الأربعين عامًا الماضية، حدثت إعادة توزيع جذرية للثروة من الطبقات الدنيا والوسطى إلى القمة. فكلما ارتفعت في الفئة العليا، زادت ثروتك، بينما تم فرض ضرائب عالية على الطبقات الوسطى والدنيا، التي أصبحت تزداد فقرًا بشكل مستمر.

وفقًا لوولف، فإن هذه اللا مساواة المتزايدة أثارت مشاعر الاستياء والرغبة في أنظمة اقتصادية بديلة، وأدت إلى تراكم الديون بشكل كبير في البلاد، مما أسهم في الأزمة المالية عام 2008. وكشفت هذه الأزمة عن هشاشة الاقتصاد الأميركي، مما أدى إلى انتشار خيبة الأمل، وهو أمر غير مرغوب فيه لدولة عظمى.

المشكلة تكمن في أنه يبدو أن هناك إنكارًا لما يحدث، مما يشكل عقبة كبيرة أمام اتخاذ الإجراءات التصحيحية. ومن خلال تقديم الاستشارات على المستوى الدولي والسفر حول العالم، يتضح أن الناس بشكل عام لا يولون اهتمامًا كبيرًا لمن في السلطة أو نوع النظام الحاكم، طالما أن الاقتصاد يعمل بشكل فعال، ويتم الاهتمام بمصالح الناس، وتتوفر فرص للنمو والتقدم.

وبينما تواجه الولايات المتحدة مشاكلها، برزت الصين كقوة عالمية كبيرة. على مدار العقود القليلة الماضية، نما الناتج المحلي الإجمالي للصين بمعدل سنوي متوسط يقارب ضعف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، مع تراكم ديون تفوق إجمالي إنتاجها الاقتصادي، أي أكثر من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو ما يثير القلق. أتساءل كيف ستتمكن من سداد هذا الدين الضخم دون اللجوء إلى التلاعب بالدولار، مما سيؤدي إلى مشاكل خاصة بها.

لقد حول النمو السريع للصين البلاد من واحدة من أفقر دول العالم إلى قوة اقتصادية بارزة. إن صعود الصين يعكس النمط التاريخي للإمبراطوريات الناشئة التي تتحدى هيمنة القوى الكبرى. في رأيي، لا شك أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة، كون رأسماليتها في حالة تراجع وديمقراطيتها تبدو معيبة. إنها مسألة وقت فقط إذا لم تُعدل الولايات المتحدة مسارها الحالي.

لقد تدخلت الولايات المتحدة في العديد من القضايا، وهي تواجه تحديات كبيرة داخليًا، وسياسة متذبذبة في الخارج، ومالية مثقلة، وجيش منتشر في أماكن متعددة يقاتل ويمول الحروب في مناطق أخرى.

يبدو أن انحدار إمبراطورية الولايات المتحدة بات وشيكاً، وفقًا للأنماط التاريخية للإمبراطوريات السابقة. هل لا يزال هناك وقت لتغيير المسار؟ أعتقد أن هناك فرصة، ولكن يجب أن يحدث الكثير بسرعة، لأن القوة الصينية الهائلة أصبحت الآن تحاذي الولايات المتحدة ولم تعد خلف مرآتها الخلفية. في ظل الوضع الحالي، تدل جميع الإشارات إلى تحول في المشهد العالمي وتغيير في موازين القوى لصالح الشرق. من الضروري مواجهة واقع الوضع الراهن والتعلم من دروس التاريخ. وفقط من خلال الاعتراف بهذه الحقائق ومعالجتها، يمكن للولايات المتحدة أن تأمل في التكيف وإيجاد طريق جديد للمضي قدمًا.طلال أبوغزالة

مفكر عربي

copy short url   نسخ
03/01/2025
15