هل هناك مبرر لمخاوف البعض من كون هيئة تحرير الشام، ذات خلفية سلفية جهادية، التي تقوم على فقه يحمل في طياته أصول غلو فضلاً عن الممارسات لبعض افراد هذا التيار؟
نقول نعم..
لكن الحكم على هذا الانتماء، لا يجوز أن يُعتمد دون النظر إلى تطورات المشهد السوري، وصراعات بعض مسارات الثورة الوظيفية، في أوج التدخلات والفشل الثوري المركزي أمامها، ثم النظر بعمق إلى تجربة حكومة إدلب، والتفتّت السوري الثوري، الذي تزامن عبور تجربة إدلب معه، والذي ظل سياقه حاضراً، حتى بعد تحرير دمشق، وتورط الائتلاف الوطني السوري فيه.
فالأمر معقد وليس سهلاً، لتحكم على مذاهب وتيارات، فأنت لست في سياق اجتماعي مستقر، وإنما تُحلّل أمام تدافع شرس، وثورة احتشد على وأدها مصالحَ كُبرى، ثم عادت عقارب الزمن، لتخلق لها مخرجاً، التقطه فصيل من هذه الثورة، مع تحالف من فصائل أخرى، وأَنجزَ ما حلمت به الثورة لـ 14 عاما.
والحكم على علاقة هيئة تحرير الشام، يتبين من خلال تموضع التيار السلفي الجهادي ذاته، فبروزه حضر في مواجهة البغي العالمي والصهيوني، الذي نرى أثر كوارثه في غزة، وهذا يحتاج إلى فرز دقيق، لا يعني التسامح مع التطرف والغلو، لكنه يضعه في موازينه الظرفية، في الحروب والمواجهات.
أما الأمر الآخر فهو أن مركزية أحمد الشرع، وارتباط القوة الميدانية الأمنية به، انسجمت مع تطور لغته، ودلائل اهتدائه إلى مقاربة منهج أهل السنة المقاصدي، الذي يُمثّل رسالة الإسلام فوق المذاهب، وهذا ما نرجوه له ولرفاقه، فهل هذا وعي من الشرع، أم برغماتية؟
استمعتُ إلى كلمة مؤصلة مهمة، يتحدث فيها الشرع، عن مفهوم الشرطة الدينية، وأثرها السلبي في أحد الدول، وأنهم في إدلب يجب ألا يطبقوا هذا النموذج، وأن هناك قوانين عامة للحسبة، وسلوكا عاما للآداب، في إطار المفاهيم الشرعية، لا تعني تسلط الشرطة الدينية على خصوصيات الناس، وهذا النقد كان بالنسبة لي ذو دراية واسعة، خاصة في ظرف تلك الدولة، والارتداد الاجتماعي، الذي حصل فيما بعد عن تعاليم الإسلام فيها.
ثم إذا ما وضعنا تطور خطابه، مع تطور مواقفه بما فيها مواجهة أجنحة التطرف في السلفية الجهادية، وبما فيها مفاصلته عن القاعدة في نموذجها الأخير وحربه لتنظيم داعش، فنحن أمام زعيم يجمع بين قوة التمكن الأرضي في وطنه، وعمق الفهم لمتطلبات الدولة الوطنية، وهي ناحية إيجابية دقيقة.
إننا اليوم أمام سياقات تاريخية في أحداث حاضر العالم المسلم، وبالتالي يجب أن نخرج من هذه التابوهات المصمتة، في تقييم الأفكار وفقاً لمناهج الجماعات، مع فهم التحديات الوطنية وعلاقتها بشخصية أحمد الشرع مستقبلاً، لكننا نؤكد هنا على النظر إلى دور الجماعة الثورية، في الحكم أو في قواعد الثورة، بعد التحرير وفقاً لمتطلبات فقه الدولة.
وهذا لا يعني أنه لا توجد ضرورات لمعالجة بعض زوايا النظر المغلقة، والخاطئة والقاصرة عن فهم مقاصد التشريع الإسلامي، ولكن نشجعها حين تدرك تحديات الواقع، بالعبور من ضيق المذاهب إلى سعة الإسلام، ومن وطن الجماعة إلى جماعة الوطن.
فهل هذا يعني اننا ننضم إلى جوقة المادحين المقدسين لأحمد الشرع؟
كلّا..
لكننا ندرك أهمية ما يسميه ابن خلدون عصبية الحكم، أي القوة المحيطة بمركز الدولة، ثم نقرأ تطور الخطاب، وننظر في واقع سوريا والتحديات الكبرى، وهذا الإرث المروّع، الذي أورثه حكم منظومة الأسد الإرهابية على البلاد والعباد، في عدة مدارات عسكرية وأمنية، وليس الهجوم الصهيوني المتعدد إلا أحدها، والذي لا يزال يتطلع إلى فوضى مواجهات أهلية وفتن طائفية، تكفل له اجتياح دمشق كما فُعل مع بيروت.
إن هناك مسؤولية على القائد احمد الشرع عاجلة، لمعالجة شعور أطياف إسلامية ومدنية، أنها خارج مطبخ السلطة والتشريع الانتقالي، لكن إعلانه عن العزم على عقد مجلس الحوار الوطني، ثم صياغة العقد الاجتماعي، يعني أن الرجل في موضع يُقدّر فيه المسؤولية الوطنية، والطبيعة السورية، وخاصة حين قال أن سوريا ليست أفغانستان، وهذا أمرٌ دقيق ومهم لفهم فرق البيئات.
في ذات الوقت على الجماعات الوطنية في سجل الثورة المدنية والإسلامية، فهم مرحلة العبور الحرج لميلاد الدولة، دون حجب حقهم في المعارضة، لكنني لستُ مستعجلاً على مشروع مدني يُبنى على أرضٍ هشة، والكاريزما التي يتمتع بها أحمد الشرع، هي ضرورة لهذا العبور، أمام جبهات عديدة متحفزة، رافضة لحرية القطر السوري، تلعب على نسيجه الداخلي.
وعليه فمنح الرجل المساحة المستحقة للانتقال الوطني يكاد يكون ضرورة مطلقة، وحين تستقر الأمور ويجنح للاستبداد، فإن حق المعارضة المدنية السياسية قائمة لكل سوري.